كان الباحث الهولندي مارسيل كوربر شوك لا يزل في إحدى الهجر متجولا غرب منطقة الرياض أواخر الثمانينيات الميلادية في نطاق مهمته الرئيسية لإجراء بحث ميداني في تراث بعض فرسان وشيوخ قبائل الجزيرة المنقولة شفهيا من أفواه الرواة وفي احدى الليالي التي قضاها هناك استسلم الضيف في مكان إقامته للنوم تحت أديم السماء بمزرعة مضيفه حتى أيقظه زعيق طائر ليلي كان يستعجل ظهور أعمدة الصبح لينطلق في غدوته اليومية وفتح مارسيل عينيه ليرى (درب التبانة) تتابع طريقها الغائم من ذنب العقرب إلى ذات الكرسي, وكانت البجعة الجبارة كما يقول جامدة في طيرانها بلا حركة وسط الغبار النجمي وهو يحاول استذكار بعض القوالب القصصية التي يخترعها العرب حتى يرسخوا في الأذهان تراتيب ظهور النجوم وعلاقتها بمواسمهم إلى ان قال ضمن كتابه (البدوي الأخير): في اليوم التالي قدت سيارتي (حمرة) عبر الصحراء مع منيف. كانت لديه أنباء عظيمة: (الخامس طلع).. قال لي مقهقها النجم الخامس من النجوم السبعة في الدب الكبير شوهد لتوه فوق الأفق في نهاية الليل. وكان ذلك يعني أنه في غضون 25 يوما سيطلع الوسمي (الوسم) أو انتشار نجوم سهيل والثريا والجوزاء: إنه الخريف العربي. وإذا كان هناك مطر غزير في تلك الفترة, وخاصة وقت ظهور الثريا, فإن عشب الصحراء والنباتات الحولية تبلغ ذروة تفتحها ويمكن للإبل أن ترعى في الحقول حتى قبل أن يبدأ الشتاء. أمطار الخريف ضرورية لأن أمطار الشتاء الوفيرة وحدها لا تكفي: في هذه الحالة يذبل العشب في شمس الربيع الحارة قبل أن يكتمل نموه. (بنات نعش) هو المعنى الحرفي للاسم الذي أطلقه منيف على Ursa Magor. والعتيبي موهق الغنامي الذي سأله الباحث الألماني هيس في القاهرة في مطلع القرن العشرين عن لغة قبيلته وثقافتها, كان يعرف كيف تحدث الأشياء. تأويله لم يعط تفسيرا للاسم فحسب, بل ولحركات الدب الكبير والدب الصغير عبر السماء أيضا, قال له موهق إن الجدي, كما يسمى النجم القطبي, اعتدى على إحدى البنات السبع وقتل والدهن (نعش), ثم لجأ الجاني عند (الحويجزين). وهما نجما الدب الصغير اللذان يتحركان جيئة وذهابا فوق النجم القطبي الثابت. دفنت البنات والدهن ثم خضن معركة بنعشة للانتقام من الجدي. وحين كن على وشك الإمساك بتلابيبه قال الجدي: لست أنا المذنب بل سهيل (النجم الذي يظهر مقابل النجم القطبي باتجاه الجنوب تقريبا). فاستدرات البنات وتوجهن إلى سهيل ولكنه نادى من بعيد, (يا بنات الليل) لست أنا المذنب بل الجدي هو المذنب! ومرة أخرى استدرن باتجاه الجدي ولكن (الحويجزين) اعترضا طريقهن وبذلك أنقذا دخيلهما. ومن واجب كل بدوي أن يقدم ضيافته للدخيل الذي يلجأ إلى خيمته, ويفترض به أن يحميه من مطارديه مخاطرا بحياته إن اقتضت الحاجة. وإذا لم يفعل ذلك فإن حرمة الخيمة ستكون قد انتهكت والشرف سيكون قد ثلم. والبدوي من دن شرف كالفيل الجريح الذي يعزل نفسه عن القبيلة ليموت وحيدا. سعود المطيري قال لي منيف إن البدو يعيشون بين الأمل والخوف. وعلى امتداد ثلاثة (وسميات) لم تسقط قطرة مطر ونزح بدو أكثر فأكثر من الصحراء بسبب شح الكلأ, ولو تعين شراء كل علف الحيوانات ونقله, لفقدت حياة البداوة جاذبيتها بسرعة. الصامدون الذين كنا في طريقنا لزيارتهم تعين عليهم أن ينقلوا سبعة شوالات من الشعير يوميا لجمالهم السبعين, وذلك مصروف يزيد على (تسعمائة) دولار أمريكي في الشهر. يضاف اليها 200 دولار أخرى شهريا لعلف أغنامهم. ولكن تربية الغنم نشاط مربح برغم ذلك. فالإبل لا تدر شيئا سوى الخسارة. أما الغنم فهي شر لا بد منه للبدوي. الجمال تمنحه مكانة, ومنظر الإبل كيفما خلقت يملأ وحده قلبه اعتزازا وفرحا.