كثيرا ما تنتابني حالة الصمت التي أعيش الآن، وللحق فإنني أجدني شخصاً صموتاً، الصمت هذا عادة يعقب قراءة مطولة في كتاب ما، والحالة تكون أشد عمقًا حين يكون الكتاب رواية، إن المسافة التي يجب أن أقطع كي أصل لمنزلي تتطلّب ما يقارب العشرين دقيقة وللصمت الذي أعيش لم أرغب في أن أقطع المسافة بالاستماع إلى أغنية، إنما أدرت أغنية أوبرالية قصيرة لماريا كالاس، ولم أجدها أغنية لأنني لا أفهم كلمة مما تغني ماريا، نعم إن المعنى يمكن له أن يتحوّل إلى إزعاج لذلك كانت ماريا هي الأنسب تلك اللحظة، فإن تحمل الموسيقى كلمات لا أفهمها فهذا يعني وبشكل طبيعي أنني مفتون باللحن وغالبًا لا أحفل بمعنى الكلمات المغناة، ويحدث أن أبحث عن معنى القصيدة المغناة فأجدها تسيء لاستقبالي للأغنية فأندب فضولي غير المُبَرّر، إذ أرجح كفة العقل على متعة الأذن في أنني لا أريد أن أكون أحمقا يستمع إلى ما لا يفهم! كم أنا مغرور! ولجميل المصادفة وبينما أنا أقطع المسافة إلى المنزل أجد مقطوعة موسيقية لأنتونيو فيفالدي ما استمعت إليها منذ زمن، فتناغمت معها، بل تناغم صمتي معها، ولا زلت حتى الآن وبينما أنا أكتب هذا النص أستمع إليها، تصبح الموسيقى التي أتوخى بها الحذر من المعنى من اللغة هي العمق المناسب الذي يمدّني بالقدرة على الكتابة، والغريب في الأمر أنني أقدّم المعنى فيما أكتب الآن، فكيف أناقض نفسي ما بين الهروب من اللغة والمعنى وأجلس لدى الورقة هذه أكتب اللغة والمعنى! كنت أعرف أنني نسيت المفاتيح في المنزل ممّا أثار استيائي وأنا أقطع المسافة لأنني سأضطرّ للاتصال بأهلي ليفتحوا الباب لي، ما كنت أرغب في الكلام أبدًا، كل معنى يمكن أن تنتجه لغتي هو بحد ذاته شيء مزعج، والأسوأ من ذلك هي فكرة إنتاج المعنى في المرحلة الأولى من تألفه في العقل قبل صدوره من اللسان، وهنا ربما أكون من حيث ما كنت أدبّر قد شرحت نظرية نوم تشومسكي اللغوية والتي ادّعى فيها أن اللغة تُنتج وفق مرحلتين هما: المبنى العميق والمبنى السطحي. بينما كنت أهمّ إلى دخول المنزل وأخلع عني ثوبي وحذائي كنت أحرص على ألا يتعرّض سمعي لأي كلمة إذ كنت أخشى أن يفسد المعنى الخارجي النص الذي أكتب الآن، بل كنت أتحرّك بتؤدة تامّة، لقد كنت كمن يخشى أن يسّاقط النص من رأسه كأنني امرأة أفريقيّة تحمل دلوَ الماء فوق رأسها وتخاف أن تضيع قطرة ماء منه، وإن كانت الأخيرة كما قد رأيتها ورأيت غيرها قد توصّلن إلى المهارة الكافية لأن يمشين راقصاتٍ ودلو الماء فوق رؤوسهن دون أن تسقط قطرة من الماء الذي يحملن، مما يدعوني الآن أن أفكّر في أمر الشاعر حين تتفتّق قصيدة في رأسه، إذ أتساءل كيف يفعل حين لا يكون في المكان أو/ ولا الزمان المناسب، حتى وإن كان يحمل قلمًا وورقة في جيوبه، إنني لا أعتقد أنه يمكن لواحدنا أن يكتب في أي ظرف كان، ربما يملك الشاعر قوة اعتزالية عظيمة إذ يستطيع ومن خلال لياقته الاعتزالية الاحتفاظ بقصيدته راكدة في صدره حتى يتواجد في المكان والزمان المناسبَين ليبدأ كتابتها، نعم بالفعل الآن وجدت أنني وبغير تخطيط أكرّر كلام شارل بودلير الذي كتب مرة: "الحشد، الوحدة: مصطلحان متعادلان ويمكن تحويل أحدهما إلى الآخر بالنسبة للشاعر المجتهد، خصب المخيلة. من لا يعرف سُكنى وحدته لا يعرف بالمثل كيف يكون وحده في حشد موّارٍ بالحركة." لقد كنت هشًا جدًا حين كنت أمشي الهوينى إلى عزلتي وألعن بشكل هادئ في صدري جارنا الذي يستخدم مكيفات النافذة التي تصدر صوتًا ميكانيكيًا مزعجًا إذ كنت أخاف أن يفقدني امتلاك نصّي اللعوب الذي لا ينفك عن الانتفاض محاولة للهرب وألعن بانحياز المحلل الرياضي الذي كان يستمع إليه أبي في التلفزيون حين قال إن مرمى فريق الاتحاد كان مُعرّضًا لولوج العديد من الأهداف إذ لن أشتم أبي في كل الأحوال وأيضًا كيف يمكن للأحمق هذا أن يستخدم مفردة ولوج متبوعة بأهداف، إنهم المحللون الرياضيّون، ألا تبا لكم أيها المتبطلون المتطفلون على اللغة!. لقد انتهى النص وأنا في الحقيقة لا أرغب أن ينتهي..