غسل أبو سالم يديه ونظفهما من الدم وراح يخلل بالماء ما بين أصابعه وقد ألح عليه تفكير مازال يشغله منذ البارحة.. هل أستطيع أن أغادر القرية وكيف يكون ذلك..؟ هل أترك الجماعة والمزرعة والخلاء المفتوح وأحاديث الرجال وأذهب إلى المدينة «لا عارف ولا معروف».. هل صحيح أنني سأترك البيت والجيران.. لطالما وعدت نفسي حينما أسمع ما يغيظني بأن أترك القرية لأهلها ولكن ذلك كان نوعاً من التهديد غير القابل للتنفيذ.. كنت أقول ذلك في نفسي وأنا أعلم أنني غير صادق.. هل جاءت اللحظة الجادة التي لا خيار لي فيها؟ نهض من مكانه وهو مشتت الذهن غارق في تفكيره قابض على تلك الحسرة المهيمنة في صدره وكأنه لم يعد يملك قرار نفسه منذ ليلة البارحة.. وحينما أقنعه أخوه بالرحيل إلى الرياض شعر بإحساسين متناقضين.. الإحساس الغامض بالغبطة بالخروج والانتقال إلى العالم الجديد وما فيه من مغريات بحياة جديدة ستنقله من عالم القرية، وهذا ما سيجعل الناس يحترمونه ويتحدثون عنه في غيابه أو في حضوره حين يزور القرية تماماً كما يفعلون مع أخيه دحام.. الإحساس الآخر هو ذلك الحزن العميق الذي يكوي نفسه كلما ذكر أنه سيغادر القرية بأهلها وأصدقائها الطيبين وبذكرياته منذ طفولته إلى هذه اللحظة. وظهر واضحاً أن هذا الإحساس يسيطر عليه سيطرة كاملة.. فكم تمنى أن أخاه لم يزره ولم يشعره بأنه وجد له عملاً وأن عليه أن يرحل إلى المدينة بشكل عاجل.. خرج من حوش الأغنام حيث الذبيحة معلقة.. إلى وسط البيت.. كانت أم سالم واقفة وقد وضعت يدها فوق رأسها وهي تراقب الحمام الواقع فوق الجدار الفاصل بينهم وبين جيرانهم.. والحقيقة أنها لم تكن تراقب الحمام وإنما كانت تصغي إلى سؤال موجع لا تريد أن تسمعه ولا أن تبوح بالإجابة عليه.. أحقاً أننا سنغادر بيتنا هذا..؟ لقد كانت أم سالم أشقى الناس أو أشقى أهل البيت كلهم بهذا الخاطر العنيف.. قطع تفكيرها ظهور «أبو سالم» المفاجئ قال لها: أم سالم..؟ ثم صمت.. اطلعت بحدسها على ما يدور في خاطره وعلى فحوى استفهامه ولم تجب وإنما تبادلا نظرات كانت كافية لمعرفة ما يدور في صدر كل منهما وكانت تلك إجابة كافية تجاوزها أبو سالم وسأل عن سالم يريد منه أن يذهب إلى أعيان أهل القرية ويدعوهم لوليمة أخيه.. سالم كان الوحيد الذي يكاد يطير من الفرح ولطالما سمع من ابن عمه وصف الرياض وما فيها من أشياء يصعب على الخيال أن يصدقها.. وكان ابن عمه كثيراً ما يبالغ في وصف الأشياء وبالذات وصف بيتهم.. الفيلا الجميلة المحاطة بسور جميل من شجيرات الورد والريحان.. وفي الغد سوف يعلن عن رحيله أمام زملائه الذين بالطبع سيغبطونه لأنه سيترك لهم القرية بحميرها وكلابها إلى المدينة وانه سوف يسكن فيلا شبيهة بفيلا عمه وقريبة منها. حينما اكتمل عقد أهل القرية وقف أبو سالم ثم ألقى نظرات سريعة على وجوه «الجماعة» الذين شخصت أبصارهم نحوه وقال: يا جماعة أنتم تعرفون أنه لا يوجد أعز لدي من هذه الوجوه وانني وإياكم مثل الرجل وأهله.. وأنتم أهل والقرية هي بيتي بل إن بيت كل واحد منكم هو بيتي وكل واحد منكم هو أخي.. وعندما لفظ هذه الكلمة «أخي» أحس بغصة في حلقه ثم تلتها شهقة وهو يواصل حديثه وفاضت دمعة من عينه اختلطت بالعبارات التي يرددها واختلطت بالقسم الشديد حينما قال والله إنكم لأهلي وإخوتي.. في هذه اللحظة اهتزت الديوانية بما يشبه العبرة المدوية.. واستمر أبو سالم في حديثه الحزين وأبلغ الجماعة بأنه قرر الذهاب إلى المدينة حيث وجد له أخوه دحمان عملاً مناسباً. وكان دحمان يعمل في إحدى الشركات سائقاً ثم مسؤولاً عن السائقين ثم مسؤولاً عن قراج السيارات العام وقد وجد وظيفة لأخيه وهي حراسة القراج. وراح الجماعة يرمقون دحمان بكثير من الكراهية وربما الاحتقار لأنه هجر قرية الأجداد وها هو الآن يخرج منها أبو سالم ذئب البلدة وفارسها الشهم. كان دحمان قد أقنع أخاه بعد طول إلحاح بالسفر إلى الرياض.. والخروج من عالم القرية إلى عالم آخر أكثر ملاءمة له ولأولاده. صحيح أن قرية الأجداد أثيرة لدى الجميع.. ولكن البقاء فيها مضيعة للعمر.. وقد أغراه الحديث عن مستقبل الأولاد وكيف أن سالماً إن لم يخرج من القرية فإنه سيكون مثل إحدى بهائمها الهاملة. لم ينم أبو سالم تلك الليلة ولا أم سالم وقد أيقظها تفكير صامت هو مزيج من الحزن والخوف والندم والحسرة. بعد طلوع الشمس تجمع الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً يحومون ويطوفون حول سيارة النقل الضخمة التي مرت بالقرية قادمة من الشمال في طريقها إلى الرياض. وكان أبو سالم يحمل العفش إلى السيارة وحده.. لم يتجرأ أهل القرية على أن يساعدوه كان ذلك محرماً عليهم. وكانت عيونهم حزينة تجمع فيها الدمع والذهول. وفي مدخل الدار كانت هناك شبه مناحة من بكاء النساء وعويلهن على حبيبتهن أم سالم.. حتى النساء اللائي كن يغبطنها كن من أشد الناس جزعاً على فراقها.. وقبل أن يغلق الباب على البيت المهجور كانت أم سالم تلقي نظرة على أغنامها ثم شعرت بما يشبه الشلل وجلست تعول وتنوح. أراد أبو سالم أن ينهضها فلم يستطع ثم أقسمت جهد يمينها أنها لن تبرح مكانها إلا بعنزها «الربشاء» وأولادها.. لم يكن الوقت كافياً للأخذ والعطاء أو الجدل. حمل أبو سالم الجدي الصغير على كتفه وفتح باب الحوش تتبعه الربشاء وبناتها.. وقبل أن تتحرك السيارة كان رأس أم سالم يخرج من فتحات صندوق الشاحنة وقد اختلط برؤوس غنيماتها وكانت النساء يمررن بها يلقين عليها نظرة الوداع.. وكان رأس سالم ذاهلاً يفكر في أشياء كثيرة.. والشاحنة تتحرك مثيرة وراءها، عاصفة من الغبار والدموع، إلا أنه لم يكن يتصور أنه سوف يكتب هذه الحكاية في مكتب عيادته بمستشفى بلدته التي تحولت إلى مدينة..!!