إذا كان النقّاد رأوا في رواية السوداني الطيّب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" دلالات رمزية حول "النخلة" في دار البطل "مصطفى سعيد" وجدّه كذلك، وفي البطل ذاته وعلاقته بصديقاته البريطانيات اللواتي يمثّل الصراع بين الشرق "مصطفى سعيد" والغرب "صديقاته"، فإن رواية خالد اليوسف "وحشة النهار" فيها من الرمزيات التي تشكّل دلالات عند قارئ وآخر، سواء في شخوص الرواية مثل بطل الرواية الرئيس "سهيل" الذي يحمل تناقضات المجتمع في ذاته بين تصوّفه وعربدته في آن واحد، وبين عجزه المرضي الحاضر وذكرياته التي يسردها بين سطور الرواية وتظهر قدرته الصحيّة القويّة النشطة، ومن خلال شخصيته الارستقراطية التي تتجلى في عمله كمهندس في شركة بترول فوق أرض بدائية تمثّل المجتمع الارستقراطي في العالم الثالث، وعلاقته بالغجرية "غزيل" التي تمثّل بدائية المجتمع، وتعلّق "سهيل" ب "غزيل" هو مكمن الصراع الطبقي الارستقراطي والبروليتاري، والصراع بين الحداثة والموروث الشعبي، ومحاولة "سهيل" لجعل "غزيل" عصرية هو بمثابة عصرنة الموروث أو استحداث الموروث التقليدي بحلّة عصرية، وبين علاقة والده السارد الثاني بوالدته السارد الثالث ؛ حيث تمثّل تلك العلاقة تحدّي المجتمع في نبذ المذهبية وتطرّفها؛ حين تكون الفطرة سليمة ليحصل السلام والحب والوئام تحت وطن واحد، وسرد شقيقه "مشاري" الرابع الذي يمثّل الصدى أو الإعلام أو الرأي الآخر تجاه أوجاع هذا المجتمع، بكل تناقضاته، بين التطرّف والوسطيّة، والانفتاح والمعايشة والانغلاق والتقوقع. سعود بن بندر يسرد البطل سهيل في الرواية: "قال لي أبي حينما علم بحكايتي مع بنت الصحراء: جئتُ إلى هذه المنطقة بعد حل وارتحال على امتداد طريق التابلاين، ورؤسائي الأجانب لا تصل إليهم شكوى بعطل معين في أنابيب البترول إلا تجد قرارهم جاهزاً لإرسالي إليه لإصلاحه، مهما كانت المسافة بعيدة، لهذا تجدني كل يوم في بلد عامر أو في صحراء منقطعة، أو في محطة صغيرة، أو في (رأس تنورة) منبع هذا الأنبوب الطويل، إلى أن جاء قرار توسعة هذه المحطة، وأُعلن عن وجود وظائف مستقرة، فكنتُ أول من انضم إليها، فمُنحتُ سكناً داخل المجمع الجديد، وهو مختلط، بحسب النظام الأجنبي في كل شيء، إلا أن سكن العزاب بمعزل عن سكن المتزوجين، كنت أقضي معظم وقتي مع رفاق العمل خارج المجمع، ربما بسبب تعلقنا بحياة منطلقة لا حدود لها، فكانت الصحراء هي مقصدنا دائماً، إلا أني بين وقت وآخر أذهب بمفردي بعيداً عنهم. ذات مرة كنتُ في رحلة من رحلاتي الكثيرة منفرداً ومختلياً بنفسي، ولي مكان أشعر فيه بالاسترخاء والاطمئنان حينما أمكث فيه وقتاً أطول؛ فمر بي قطيع من الماشية المتنوعة الأعمار والأشكال، تقودها فتاة متلفعة بعباءة وبرقع، وحينما نهضتُ من مكاني باتجاهها جفلتْ وخافتْ مني، إلا أني طمأنتها وأخبرتها بحسن نيتي، وأُريد شراء شاة مع صغارها فوافقت، ثم بدأتْ تبحث بين القطيع حتى أخرجتْ لي شاة ومعها أبناؤها الثلاثة، كنتُ وقتئذٍ أدقق النظر إليها، فأعجبتُ بها، وبدأ لي أن اللهجة التي أسمعها منها تدل على أنها عراقية اللسان وهذه تعجبني. بعدما منحتها المبلغ يداً بيد، طلبتُ منها وصف مكان أهلها فوصفته لي بعد إجابتي عن سؤالها: ماذا وراء طلبي معرفة مكانهم؟" أ.ه الجهيمان رواية اليوسف الجديدة "وحشة النهار" موحشة في أجوائها، وفي ثنايا الرواية التي تنقلنا لبدايات تدفق النفط نعيش اضطراباً موجعاً، بين تعدّد الأصوات على طريقة "باختين"، وبين ظهيرات صحرائها وطريق التابلاين، وبين جروح وغراميات وتحدّيات الحاضر والماضي، ليكشف لنا اليوسف عن مقدرة روائية مختلفة جداً عن روايتيه السابقتين "وديان الإبريزي" و"نساء البخور" التي سبق وأن كتبت عنها في العدد (16397) وتاريخ 16 مايو 2013م حيث ذكرت أنها تمتلئ بالكثير من الحوار الذي ينقلنا إلى اللهجة النجدية القديمة إلا أنني تمنّيت أنه أطال في الرواية لأنها بمثابة بذكرة يمكنها أن تنمو، فقد وثّق فيها تلك الحياة التي لم يعشها الروائي نفسه، ومع ذلك عشنا معه تلك الفترة، كما تمنّيت أن يدعم الرواية باستشهادات من ذلك الزمن الجميل المليء بالشعر والفن الشعبيين . أما في "وحشة النهار" فإن أجواء الرواية جعلتنا نتنقّل بين الأصالة والمعاصرة، وبين الأنا والآخر؛ يتمثّل ذلك في قرائتنا للغتي العربية والإنجليزية، وبين الفصيح والاستشهاد بالشعر النبطي، وبين الحكاية المعاصرة والحكاية الشعبية في الحوارات الدائرة والسرديات الروائية، وإن كان بعضها يوحي للقارئ أنه جاء على شكل تقريري والآخر مؤدلج، إلا أن أجواء ربّما حتّمت عليها وضع مثل هذا، ونهايتها الموجعة على لسان السارد "مشاري" شقيق "سهيل" تبيّن مقدرة فائقة، وكنز ينبئ بأن لدى اليوسف الكثير ليكبته سواء في هذه الرواية أو الروايات المستقبلية، لولا انشغاله بشكل فردي وقيامه بأعمال مؤسساتيه تجاه أبحاثه الثقافية تجاه الرواية والقصة والشعر. غلاف وحشة النهار طعّم اليوسف أجواء الرواية بالشعر النبطي الخالص، وذلك حين وضع أبيات من الشعر النبطي للأمير سعود بن بندر في فترة السبعينيات الميلادية التي عاشها البطل "سهيل": تولّعت بك والله كتب لي على فرقاك وحسبي على الحظ الردي كانه أشقاني أنا ما شعرت إني مع الناس قبل ألقاك ولا ذقت للدنيا طعم قبل تلقاني ولا كنت أحس بلوعة الحب قبل أهواك ولولا عيونك ما كتبت أجمل ألحاني ويأتي في الفصل (11) "سهيل" الذي يخبر أنه وقع في فخّ الشعر الشعبي بعد رؤيته لديوان كان يعتقد أنه شعر فصيح لروعة لغته، عنوانه (رشة عبير) لأحمد السعد –رحمه الله-، لا سيما أن أصدقاءه يعلمون عن عشقه للفن الشعبي، ويطرب للكثير منه، فتقاطرت عليه الكثير من أمثال ديوان أحمد السعد، وقرأ قصائد طلال السعيد، وسعد الثوعي - رحمه الله-، وبدر بن عبدالمحسن، الذي أوقفه عند الشعر الشعبي كثيراً، ثم أنساه غيره من الشعراء، وتوقف عند كل قصائده، وتوقّفت متابعته للشعر الشعبي بعد بدر بن عبدالمحسن، وحفظ وردد قصيدة "رسالة من بدوي" للأمير بدر بن عبدالمحسن، وكأن هنا دلالة روائية أنه حفظها من أجل محبوبته "غزيل" ولكنها بتناقض عكسي كما هي حاله المتناقضة: يا بنت أنا للشمس في جلدي حروق وعلى سموم القيظ تزهر حياتي أطرد سموم الآل في مرتع النوق ومن الظما يجرح لساني لهاتي عاري جسد والليل هتّان وبروق دفاي أنا والبرد سمل العباتي إن عذربوني بعض خلانك صدوق يابنت أنا عشق الخلا من صفاتي كما استشهد اليوسف ببيت لمريبد العدواني: الذيب ما يرقد ورزقه نهابه يدوّر الغرّات عند المصاليح وجاء بعدها على حكايتين شعبيتين شهيرتين على لسان والد "سهيل" واستشهاده ببيتين من قصيدة ضمن حكاية وردت عند الشيخ عبدالكريم الجهيمان – رحمه الله – وردت في مجلداته "أساطير شعبية" : تخاويت أنا والذيب سرحان دعيته بأمان الله وجاني لقيته خويٍّ يقضي الشان ندبته على المرقب شفاني اليوسف السعد وإن كان اليوسف وضع "وإن" في بداية الشطر الأخير كما وردت وهو ما يجعلها مكسورة، وإن كان بعض نقّاد الأوزان الشعبية يجيز زيادة السبب الخفيف عند من وردت قصائده بعد حميدان الشويعر -رحمه الله- الذي يعدّ أول من طرق هذا الوزن، كما أن اليوسف كرر المقطع في الفصل (15) سواء ببيت واحد أم بإضافة أبيات أخرى كما وردت في كتاب الجهيمان، وكي لا نخرج عن فقرة حكاية الذيب، نذكر أن اليوسف وضع من ضمن سرد تلك الحكاية على لسان أبي "سهيل" البطل بيت للشريف بركات الحسيني من أمراء الحجاز، وهو غير الشريف بركات المشعشعي من أمراء الأحواز: يا ذيب عاهدني وأعاهدك ما أرميك ما أرميك أنا يا ذيب لو زان مرماك