ربما تكون مرحلة انتقالية في غاية الصعوبة، لكنها ضرورية، تلك التي يمرُ بها العراق. فالخلاف السياسي بين الفرقاء، والتدهور الأمني على الأرض، والمساحات التي راحت تسيطر عليها قوات "داعش"، كل تلك المعطيات، لا تترك مجالاً لأن تتحكم الأهواء أو الأمزجة الفردية، ولا بد من اجتراح صيغة عمل توافقية دستورية، تحت إطار القانون، تضمن ديمومة الدولة، وتماسكها، وتعيد بسط قوتها على المناطق التي يسيطر عليها المسلحون والإرهابيون. العراق، الدولة الغنية مالاً وحضارة وبشراً، تحولت بسبب العنف والخلافات السياسية إلى ملاذ للتنظيمات المتطرفة. وهي مجموعات تكمن مشكلتها في عدم إيمانها بمرجعية الدولة الوطنية، وباستخدامها العنف وسيلة وحيدة للتغيير، فضلاً عن مبانيها الفكرية الإقصائية، القائمة على التكفير وإلغاء المختلف وقمعه. وهي في تمددها هذا، لم تعد خطراً على العراق وحده، بل على مجمل دول الجوار، خصوصاً أنها تؤمن بفكر عابر للحدود، وأعضاؤها من دول شتى، لا يجمعهم شيء سوى رايات عمياء لا تبصر غير وجهها المكفهر!. من هنا، استشعر الجميع الخطر المحدق، سواء في الداخل العراقي، حيث كرر المرجع آية الله السيستاني دعواته لتشكيل حكومة تحظى بتأييد شعبي وسياسي، وهي الحكومة التي من شأنها أن تقود العملية السياسية وتعطي دفعة أكبر للجيش في حربه ضد "الإرهاب". ومن دون هذا التوافق، سيجد المسلحون ثغرات يتسللون عبرها، ويخاطبون فيها غرائز "البسطاء"، ويحشدونهم في حروب أهلية ومذهبية، تمزق البلاد وتهدد وحدتها. ما سبق، يفسر الترحيب الكبير الذي لاقته خطوة تكليف السيد حيدر العبادي، برئاسة مجلس الوزراء العراقي، وتشكيل حكومة جديدة. كون هذه الحكومة ستكون قاطرة لترتيب البيت الداخلي من جهة، ومد الجسور مع دول الجوار من جهة أخرى. خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، بعث ببرقية للسيد العبادي، جاء فيها "يسرنا تهنئة دولتكم على تكليفكم رئيساً للحكومة العراقية الجديدة، داعياً المولى عز وجل أن يوفقكم ويسدد خطاكم في إعادة اللحمة بين أبناء الشعب العراقي الشقيق والمحافظة على وحدة العراق وتحقيق أمنه واستقراره ونمائه، وعودته إلى مكانته في عالمه العربي والإسلامي". وهي الرسالة المختصرة في كلماتها، إلا أنها تحمل دلالات كثيرة، ورغبة من الرياض في استقرار الأوضاع السياسية والأمنية لدى الجار العراقي، وفتح صفحة جديدة من العلاقات، تتجاوز التوترات التي شهدتها فترتا ولاية السيد نوري المالكي. طهران، والتي كانت داعمة رئيسة للمالكي، هي الأخرى رحبت بتكليف العبادي، ولم تلتفت كثيراً لاعتراضات رئيس الوزراء المنتهية ولايته. حيث صرح الأدميرال علي شمخاني ممثل مرشد الثورة في مجلس الأمن القومي الأعلى، قائلا إن "جمهورية ايران الاسلامية تدعم العملية القانونية التي مضت في طريقها فيما يتعلق باختيار رئيس الوزراء العراقي الجديد". التهنئة لم تقتصر على الرياضوطهران، وشاركهما فيها الرئيس الأمريكي باراك أوباما، والذي قال إن العراق اتخذ "خطوة واعدة للأمام" بعد تكليف العبادي بتشكيل حكومة جديدة. ليعلن تالياً وزير الخارجية جون كيري، ان بلاده "على استعداد لدراسة اختيارات سياسية واقتصادية وأمنية إضافية فيما يبدأ العراق تشكيل حكومة جديدة". هذا التوافق الدولي والإقليمي من عواصم مهمة، هو بمثابة فرصة للعراقيين لتجاوز خلافاتهم، وإخراج البلاد من دوامة العنف التي حصدت أرواح آلاف الأبرياء على مدى سنوات مضت، وهي أيضاً فرصة لدول المنطقة لإعادة ترتيب علاقاتها، لمواجهة خطر التطرف الذي تمثله التنظيمات المسلحة. والدور الآن على "الحكماء"، أن يتصرفوا بعقل سياسي بارد، يأخذ في الحسبان التوازنات القائمة، ويؤسس لرسم خارطة طريق تخرج المنطقة بأسرها من نفق العنف المظلم!