كانت تعلم أنه ليس الرجل النزيه، كانت تشعر بنواياه السلبية في محاولة ابتزاز كرامتها، لكنها كانت بحاجة ماسة إليه، فهو مدير المستشفى الذي تعمل فيه كموظفة بسيطة، تلك الموظفة التي تحمل بداخلها هم ابنها المريض الذي لم يتجاوز الخمسة أعوام، الذي يحتاج إلى علاج طويل أثر مرض ألم بعاموده الفقري، كانت تعلم أن إجراءات المواعيد طويلة، والألم الذي يشعر به ابنها أطول وأكبر، وأن ذلك المدير يستطيع أن يجعل لطفلها الصغير الأولوية في العلاج والمواعيد، كلما عاهدت نفسها بأن لا تعاود اللجوء له خشية على نفسها من تلميحاته غير النزيهة نظرت إلى عيني طفلها وهو يبكي من الألم فيرق قلبها لذلك الحجم من المعاناة الكبيرة التي تعلم أنها أكبر من طاقة جسده الصغير، فتعاود اللجوء لذلك الرجل تسأله أن يساعدها على الحصول على موعد جديد قريب فابنها متعب، أو تطلب منه أن يساعدها على الحصول على سرير أو خدمة طبية. هي تعلم أنها تخضع لابتزاز كبير من قبل "رجل" ليس بداخله ضمير حي، ولكننا في الحياة كثيراً ما نخضع لابتزاز الآخرين من دون إرادة منا، نخضع للحاجة التي تدفعنا أن نقبل بما ليس من العدل أن نقبل به، تلك هي الحياة القاسية وأولئك هم الناس الذين أصبحوا لا يعطوا إلاّ والمقابل بين أعينهم، حتى أصبحت فكرة قضاء حوائج الآخرين هي رديف لفكرة المقابل. والسؤال الذي نطرحه دائماً حينما نسمع عن من قدم خدمة كبيرة لشخص: "ترى ما المقابل؟"، فهل ذلك دلالة واضحة على قلة ثقتنا بالآخرين؟، بالأفراد الذين يعيشون حولنا وبنواياهم الحسنة، أم هي القناعة التي أصبحت موجودة بأنه لاعطاء بلا مقابل؟، وهذا هو الوقت الذي أصبحنا نعيش فيه، بكل ذلك القدر من الجشع والخوف وقلة التفاعل الخيري والحقيقي بيننا، ترى كم مرة يجب أن نخضع للابتزاز حتى نجد من يقدم لنا من دون مقابل؟، كم مرة يجب أن نحذر حينما نمد أيدينا للآخرين للأخذ منهم؟، وكم مرة يجب أن نصدق من يمد لنا يده للمساعدة لنتأكد من أنه حقاً يعطي لأنه إنسان؟، إنسان فقط من دون أن يكون خلف ذلك مقابل أو حكاية "مصلحة" علينا أن ندفع ثمنها يوماً ما. وللأسف، أصبح السعي في قضاء حوائج الناس يخالف مصالحنا الشخصية، بل أصبحت العلاقات تُبنى على مبدأ "عطني وأعطيك"، فقد ساهمت وتيرة الحياة السريعة، وكذلك الانشغال بأمورنا الخاصة في تغيير مفهوم مد يد العون للآخرين، لتكون المصلحة هي الأساس، ومتى ما كانت حاضرة كان هناك تفاعل من الطرف الآخر!. طيبة وسذاجة وقالت "ابتهال الحمود": إننا نعيش زمن المصالح المتضخمة، فليس هناك من يقدم ويسعى في حوائج الآخرين من منطلق المعروف؛ لأن المعروف بين أفراد المجتمع أصبح ضئيلاً جداً وإن وجد فإنه للأسف يُستغل، فالناس تطلق على من يقدم ويسعى من أجل مصالح الآخرين بلا مقابل ب "الطيب"، والطيب تعني السذاجة -حسب قولها - مضيفة أنه إذا وجد من يقدم ويسعى في حاجات الآخرين بصدق فإنه سيستغل، فالعكس يحدث دائماً، فإما أن يكون هناك من يسعى في حوائج الآخرين ثم يستغل تلك المساعدة ويعمل بالابتزاز من أجل مصالحه، أو يوجد من يسعى في قضاء حوائج الآخرين وهو صادق في ذلك من دون أن يكون له نوايا سيئة، ولكن الآخرين يستغلون "طيبة قلبه" ويحاولون أن يأخذوا منه دائماً، حتى إن كان ذلك فوق طاقته، حتى أصبحت المعادلة المتوازنة مفقودة في وقت أصبح المرؤ همه الكبير ذاته، مشيرةً إلى أنه أصبح هناك خوف كبير من اللجوء لبعضهم لطلب مساعدتهم، فمن يقدم لك خدمة قد يطلب مقابلاً لها يوماً ما، وربما تستطيع أن تقدمها له فتكون رددت جميلة، وربما لن تستطيع، وفي تلك الحالة لن يسامح ذلك الشخص؛ لأنه يشعر بأنه قدم لك معروفا في مقابل ذلك خيبة ظنه، مشددةً على ضرورة أن نسعى جميعاً في قضاء حوائج الآخرين لما في ذلك من أجر عظيم ولا ننتظر المقابل إلاّ من الخالق سبحانه، ففي ذلك أجر وثواب عظيم. خذلتني صديقتي وعاشت "شريفة صالح" تجربة ابتزاز كبيرة ومريرة مع صديقتها المقربة التي وثقت بها، ففي الوقت الذي كانت تظن أن الابتزاز لا يحدث إلاّ من الأشخاص الذين لا نعرفهم جيداً، إلاّ أنها اكتشفت أنه قد يحدث مع المقربين أيضاً، فقد كانت تطلب من صديقتها أن تساعدها على تيسير بعض الأمور التي تستطيع أن تعمل بها من خلال وظيفتها في إحدى البنوك، إلاّ أنها صُدمت حينما طلبت منها صديقتها مقابلاً لتك المساعدات، مضيفةً أنه لا يوجد هناك من يسعى في قضاء حوائج الناس بلا مقابل، فحتى الأخ حينما يوصل أخته إلى مكان ما يطلب منها مقابلاً لتلك التوصيلة!، مشيرةً إلى أن الجميع أصبح يفكر في المقابل، مؤكدة أن هناك من لا يجرؤ على التصريح بالمقابل، لكنه يبتز معنوياً!. قضاء حوائج الناس أثناء العمل يجب أن يكون بعيداً عن المصالح عطني وأعطيك وأوضحت "منال الصومالي" - أخصائية اجتماعية في مستشفى الملك فهد بجدة - أنه للأسف أصبح لدينا عدم تحمل مسؤولية تجاه الآخرين، فالسعي في قضاء حوائج الناس أصبح جزء منه يخالف مصالحنا الشخصية، أصبحت الحياة تُبنى على مبدأ "أعطني وأعطيك"، مرجعةً الأسباب إلى عدة أسباب اجتماعية أهمها: وتيرة الحياة السريعة، وكذلك الانشغال بأمورنا الخاصة، فمن الناحية الاجتماعية أصبح لدينا كثير من المهام، وعدد من الارتباطات، فالأوليات أصبحت مسيطرة ومفهوم مد يد العون للآخرين أصبح تدخلاً في مفهوم التدخل في شؤونهم، وتحسب من باب الفضول، حتى فقدت للأسف قيمتها الحقيقية والعظيمة، مشيرة إلى دور التنشئة الاجتماعية التي أصبحت تدفع إلى تعميق مفهوم الانشغال بالنفس، والبُعد عن الاهتمام بأمور الناس وحاجاتهم، مبينةً أن أغلب الآباء لم يحرصوا على تربية الابن على مفهوم العمل الجماعي والاقتراب من الآخر، بل إننا أصبحنا نردد عبارات للأبناء زادت من تفاقم ذلك التخلي ك "خلك في نفسك"، أو "امشي جنب الحيط"، حتى أصبحت الحياة تدور حول النفس، وذلك ما أثبتته كثير من المواقف لدى بعض أفراد المجتمع الذين يشهدون واقعة غرق لشخص، ونجد بعضاً منهم يعمل بالتصوير بدلاً من مد يد العون، متأسفةً أنه وصلت "البلادة" إلى ذلك المستوى من التعامل، فالمهم توثيق الحدث ولكن الإغاثة والمساعدة معدومة. جانب مجوف وأشارت "منال الصومالي" إلى غياب الوعي بالأدوار الإنسانية التي يجب أن يعمل بها الإنسان، والاعتماد على الجانب الآلي في الحياة وهو الجانب المجوف، مضيفةً أن من أسهم في قلة الوعي هم المنزل والمدرسة والمسجد، مبينةً أن هناك من يحاول أن يسعى في قضاء حوائج الآخرين، ولكنه بعد ذلك يبتز من يقدم له تلك المساعدة، ومثل هؤلاء لم يكن هدفهم المساعدة وإنما الهدف الحقيقي الابتزاز، موضحة أن الشخص الذي يطلب المساعدة أو تلك الخدمة يلقى عليه جزء كبير من اللوم بالسماح في ابتزازه؛ لأنه يعلم طبيعة شخصية من سيطلب منه تلك الخدمة، وبأنه سيقع في ابتزازه، مؤكدة أن عنصر المفاجأة لم يعد موجوداً في شخصية الأشخاص المبتزة، بل إنه واضح والوعي بها يرجع للتنوع الثقافي الموجود لدى صاحب الحاجة، وتفكيك الشخصيات، وطريقة الظروف الاجتماعية التي مرت على الإنسان، والتعامل مع الواقع المادي الذي نعيشه. مد يد العون للآخرين بلا مقابل يُساعدهم على تجاوز مشاكلهم خوف من الآخر وذكرت "منال الصومالي" أن هناك كثيراً من الأشخاص يرفض مساعدة أحد له؛ لأنه يخشى أن يدفع الثمن، بل إن هناك تفكير جمعي على مفهوم "لا يوجد شيء دون مقابل"، فحينما نسمع أن فلان سعى في حاجة فلان السؤال المرادف لذلك الخبر: "لماذا ساعده؟، ما السبب؟"، فتدار حولهما الظنون والشكوك، فربما يكون السبب السعي في الخير، ولكن أصبحت هناك مشكلة في عملية التآلف بين الناس، مشيرة إلى أن الابتزاز أنواع فهناك الابتزاز المادي وهناك الابتزاز المعنوي والسياسي، وكثيراً ما ترتبط بالموقف التي تدار في محيطه، مؤكدة أن أكثر أنواع الابتزاز الموجودة لدينا تكمن في الابتزاز المادي والمعنوي، مبينة أنه يبقى خوفنا من الآخر وعدم ثقتنا به محرك أساسي لعدم المبادرة الحقيقية في قضاء الحوائج للآخرين ومد يد العون لهم، وربما مما ساعد على ذلك "البيوت المغلقة" التي أصبحت منتشرة، فالجار أصبح يخشى جاره والاقتراب منه.