حاولت أن أبحث في اللغة الانجليزية عن الفرق بين معنى "الضوء" و "النور" على أساس أن "ثقافة الضوء" هي في جوهرها ثقافة معمارية تؤثر على التشكيل العمراني بل وتعطيه معناه. ولأنني أصلاً مهتم بالمعنى البيئي للعمارة خصوصاً في ما يتعلق بالظل والظلال لذلك فقد حاولت أن أبحث في المصطلحات القرآنية التي تدور في فلك "الضوء" وما يتبع هذا المصطلح من مترادفات ومعان علماً بأنه وفقاً للمفهوم السائد، لا يوجد "مترادفات" في القرآن فكل كلمة لها معناها الحقيقة المهمة التي يقدمها القرآن هنا هي أن الضوء مصدر جوهري للحياة، يقترب في أهميته من «الماء»، فعملية التمثيل الضوئي في النبات والطبيعة التي نراها من حولنا تشكلت بسبب وجود الضوء الخاص بها، وهو ما استوقفني عند كلمتي "ضوء" و "نور"، إذا إنه لا يوجد كلمة بمعنى "النور" في اللغة الانجليزية وهي في العربية لا تعني "الضوء" بل تعني الشعاع المنعكس من الاجسام غير المضيئة في جوهرها، أي تلك الاجسام غير "النارية". يقول الله تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ"(يونس: 5). والحقيقة أن معنى النور فيه بعد جمالي عميق لذلك لم نجد الشعراء العرب يتغزلون في الشمس (التي هي مصدر الضوء) ولكنهم رفعوا من شأن القمر جماليا رغم أنه جسم معتم يعكس الضوء فيصبح "منير". والعمارة تهتم بالجمال وتبحث عنه، لذلك فإن مصطلح "نور" له أهمية معمارية غير مكتشفة بعد، كما أن الله ربط بين الضوء والنور والزمن، وهو ربط مهم يكشف جانباً إنسانياً آخر لعلاقة الضوء بالوجود الإنساني بشكل عام. بالنسبة لي وجود سورة في القرآن باسم "النور" ليست مصادفة، بل تؤكد المعنى العميق لهذا المصطلح المهم الذي يندر وجود مثيل له في اللغات الأخرى، ففي الانجليزية لم أجد مصطلحاً قريباً من معنى "النور" سوى glow ويعني "الوهج" و "التوهج" وهي معان لا تصل إلى مصطلح "النور". عندما نقرأ الآية الكريمة (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور: 35) ونعي كيف أن الله سبحانه وتعالى ربط هذا المصطلح بإحدى صفاته مع هذا التصوير غير العادي للخيط الرفيع الذي يبين الفرق بين "الضوء" و"النور" وهو ما يجعلني أفكر كثيراً في القيمة المضافة التي يصنعها الضوء الطبيعي في العمارة. في الغالب النور الخافت الذي تعكسه الجدران المضاءة هو الذي يصنع الفرق الجمالي والذي يحقق "سكون المكان" ولعل هذا الفهم الجمالي لمعنى النور الذي تشير له الآية الكريمة اكتشفه المعماريون العرب الأوائل فتفننوا في ادخال النور الطبيعي من خلال كسر الضوء والاعتماد على فتحات الأسقف ومصدات الاضاءة التي لا تسمح بالضوء المباشر ولكنها ترحب بالنور. ومع ذلك يجب أن نشير هنا إلى أن المصطلحات العمرانية المرتبطة بالاضاءة متعددة في القرآن الكريم، وهو ما يجعلني دائما أقول إنه هناك "نظرية عمرانية" متكاملة في القرآن من الضروري أن نبينها ونوضحها. ما يقابل الضوء هو "العتمة" و "الظلام"، يقول الله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) (يس: 37). الظلمة هنا هي التي تجعل للضوء معنى وهي التي تصنع "النور"، فالأجسام المعتمة هي التي تعكس النور الذي يحقق "روحانية المكان" فالتدرج من النور إلى العتمة هو ما يصنع الفرق على المستوى الجمالي المعماري في أي مكان وهو العنصر الثابت حتى اليوم الذي تعامل معه كل المعماريون عبر التاريخ، كما أنه الحاجة الأكثر تأثيرا على الابتكارات الانشائية في كل مراحل تطور العمارة. لذلك نجد أن القرآن يتسائل: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ) (القصص: 71)، وهو تساءل يبين حاجة الانسان للضوء، ليس فقط للإبصار ولكن لوظائف أخرى كثيرة لا غنى للإنسان عنها. الحقيقة المهمة التي يقدمها القرآن هنا هي أن الضوء مصدر جوهري للحياة، يقترب في أهميته من "الماء"، فعملية التمثيل الضوئي في النبات والطبيعة التي نراها من حولنا تشكلت بسبب وجود الضوء. الفرق هنا أن القرآن يشير دائما إلى الجانب الوظيفي للضوء بينما يؤكد القيمة الجمالية للنور، على أنه لا وجود للنور دون وجود الضوء. ويمكن هنا أن نقول إن أحد الظواهر الكونية التي ساهمت في بناء الحضارة الانسانية هي وجود الضوء الذي مكن الإنسان من وضع موازين للزمن وللنظام الاجتماعي ومكنه من حساب الأيام والسنين وجعله يتعرف على الأشياء ويكتشفها ودفعه إلى الإبداع والابتكار. والحقيقة أن ثنائية الضوء- العتمة حملت معاني مختلفة في الكتاب الكريم وشكلت في معانيها الفلسفية قيمة مضافة حيث ربط الله العتمة بالسكون والضوء بالإبصار في قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) (غافر: 61). وإذا ما عرفنا أن الانسان قد بدأ العمران من أجل تحقيق الأمن والاستقرار والبحث عن السكون ومقاومة "الظلام" المخيف والمزعج نجد أن المعنى الذي تشير له هذه الآية: (أوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) (النور: 40) يوضح كيف أن الانسان كاره للظلمة بطبعه يبحث عن النور مصدر الابصار (وهي حقيقة علمية إذ إنه دون الضوء لا يوجد إبصار) الذي يربط الانسان بالعالم وبقيمه الجمالية، لذلك ليس بمستغرب أن يكون "الضوء" و "النور" مصادر الجمال الجوهرية، وهو جمال من وجهة نظرنا يصنع نفسه بنفسه ولا يحتاج إلى محسنات لأنه ينعكس في كل الاشياء المحيطة بنا. البعد الجمالي الآخر الذي يصنعه الضوء هو الظل والظلال، فإذا كان "النور" هو المساحة المنيرة بين الضوء والعتمة فإن الظلال هي المساحة المعتمة بين الضوء والظلمة، أنها "البرزخ" أو المساحة الانتقالية التي تجسم الاشياء وتحدد أحجامها وتبرز قيمها الجمالية الكاملة، يقول الله تعالى: (انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ" (المرسلات: 30)، (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) (المرسلات: 31). هذه الآية تشير إلى التوق للظل والظلال التي هي جزء من الثقافة العمرانية في بيئتنا، هذا التوق الذي يعرف معناه الانسان العربي الذي عاش في الصحراء، لا يتشكل إلا من خلال الضوء. ما نود أن نؤكد عليه هو أن العمران الانساني في جوهره مرتبط بظواهر وسنن كونية أوجدها الله لعمارة الأرض، ولو تأملنا القرآن الكريم وتدبرن سوف نجد الكثير من هذه السنن التي تقدم نفسها كآليات ساهمت في استدامة الوجود الانساني.