أصعب ما في النقد المعماري هو توقع الشكل القادم للعمارة، فهذا التوقع يتنافى مع فكرة الابداع الذي يرتكز على مسألة "اللا متوقع" وهي مسألة تجعل الناقد في حيرة من أمره، فهو مطالب أن يوجه العمارة ويقيمها بصورتها الحاضرة ليفتح مجالات فكرية ومهنية لممارسي العمارة، وهو مطالب كذلك أن يصنع فضاء حرا للإبداع لا يكون فيه أي تسلط أو هيمنة من أي نوع على فكر المعماري. النقد يتوقف عند حدود الابداع والابداع يحتاج إلى أسئلة نقدية حرة. ما نحاول أن نقدمه في هذه المقدمة النقدية القصيرة هو أسئلة نقدية حرة ومفتوحة تقيم الحاضر وتسائل المستقبل. إن العمارة لا تحتاج إلى المبالغة في التشكيل حتى تكون جذابة، لأن الجمال الآسر يبدأ من ذكائها الحضري أي من مقدرة المبنى على إيجاد مكان لائق لنفسه داخل الوسط الحضري ويبدو أن هذه المسألة غير مفهومة كثيراً بالنسبة لكثير من المعماريين. تقنية الثقافة أم الثقافة التقنية؟ الحقيقة هي أننا لا نعلم مدى جدوى هذه الثنائية في مجال العمارة، اي اننا لا نستطيع تقدير النسب المفروضة سواء من التقنية أو الثقافة الواجب توفرها في العمارة فنحن أمام محك حقيقي، خصوصا في هذه الايام بعد التجربة المرهقة التي مر بها العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فاختبار الجدوى التقنية هنا يبدو عميقا ومؤثرا وصنع عمارة يصعب تعريفها وربما يصفها البعض بابتعادها عن المواصفات الانسانية التي يجب أن تتشبث بها العمارة مهما حدثت من هزات تقنية. ومع ذلك نحن على يقين أن الانسان يمر بهزات وأن الثقافات تتأثر بهذه الهزات وأن العمارة تهتز تبعا لذلك لكنها سرعان ما تكون مثل الهزة التي تصيب البحيرة الساكنة تتحرك فيها موجات ولكنها تعود بعد ذلك إلى سكونها، وهو سكون غير السكون الأول لكنه يعبر عن حالة الاعتدال التي يجب أن تعود لها العمارة. الهزة التي مرت بها العمارة خلال العشرة أعوام الأخيرة كانت نتيجية حتمية لروح المغامرة التقنية التي عاشتها الحضارة الانسانية مع تفجر تقنية النانو والاتصالات الميكروسكوبية الأمر الذي جعلنا نفقد الثقة قليلا في الشكل المعماري ونعتبر "نص ميت" على غرار النصوص الميتة في ثقافة التفكيك ومع ذلك يجب أن نؤكد هنا على هذه الثقافة البصرية الغامضة التي انتجتها التقنية بدأت تعود إلى بعض وعيها وصارت تعرف نفسها بنفسها لتقدم لنا عمارة بمواصفات تقنية عالية لكنها إنسانية ومستدامة دون أن تكون ذكية ذكاء أصم، فالذكاء هنا جمالي واجتماعي بالاضافة إلى ذكائها التقني. إن العمارة لا تحتاج إلى المبالغة في التشكيل حتى تكون جذابة، لأن الجمال الآسر يبدأ من ذكائها الحضري أي من مقدرة المبنى على إيجاد مكان لائق لنفسه داخل الوسط الحضري ويبدو أن هذه المسألة غير مفهومة كثيراً بالنسبة لكثير من المعماريين فهم يتعاملون مع المبنى بصيغته المنفردة التي لا يمكن أن تغني عن علاقته المحيطية، حيث تتشكل صورة المدينة وتتجسد صورة الشارع في أذهاننا، اننا نرى أكثر من شيء في وقت واحد لكننا ننشد إلى صورة ما نحن الذين نشكلها ونرغب في رؤيتها، في اعتقادنا أن هذا المشروع يخاطب ما نرغب في مشاهدته وهذا هو المهم، لأن المبنى الذي لا يتخاطب معنا لا نعتقد أنه يحمل أي أهمية لأننا أصلا لا نراه ولا نلتفت له. الاشكالية ربما بدأت مع المد التقني لأن رغبة "انصاف المعماريين" في شد الانتباه لمبانيهم جعلهم يبالغون في التشكيل السائل الذي ليس له معنى وكانت النتيجة غيابا كامل لمعنى العمارة بينما العمارة التي تساهم في لفت الانتباه لا تحتاج إلى كل هذه المبالغات التي لا طائل منها. إذن نحن إمام إشكالية الصورة الذهنية التي نرغب في وجودها على مستوى العمارة وهي هنا تحمل ثوبا ومعنى جديدين. ولعلنا نتحدث هنا عن "سكون بعد السكون" وما نقصده هنا هو أن كثيرا من الاشكال المعمارية تستعيد حضورها في المستقبل ولكن بأسلوب مهجن يلائم التقنيات والوظائف المستحدثة اي أن هناك أشكالا معمارية تبقى وتعيش لكن في العصر الذي تستعاد فيه لا العصر الذي ولدت فيه. هذه الحقيقة التاريخية مهمة جدا لفهم تطور العمارة، لأننا نرى عادة أن الطراز هو نوع من "الالتزام" والحقيقة أنه يصعب إيجاد عمارة مبدعة وملتزمة في نفس الوقت لأن الالتزام ضد الحرية والشكل المعماري المبدع يتطلب نوعا من الحرية الفكرية التي تجعل منه شكلا جديدا. ما نراه حقيقة هو أن "التهجين" هو الآلية الأكثر أهمية وفعالية في صنع الاشكال المعمارية الجديدة، فنحن لا نخترع العجلة في العمارة لكننا نهجنها كي تصبح جديدة وفعالة. هذه الآليات يعيها المعماري ويتعامل معها في الغالب من منطلق "التجديد" وهو هنا يحاول تركيب أشكال ووظائف قياسا على ما يعرفه من اشكال سابقة لكنه في نفس الوقت يوظف كل طاقاته التقنية التي تسمح له بالتعامل مع الاشكال القديمة بمرونة أكبر ويقحم عليها الوظائف الجديدة فيخرج بأشكال مهجنة مثيرة للدهشة. الشكل المعماري مع ذلك يحتاج إلى البساطة ويحتاج إلى الكفاءة والفعالية كما أن الصيغ المحلية المهجنة تظهر بشكل لافت للنظر لأن اللمسة المحلية غالبا ما تكون في غاية التخفي تجعلنا نبحث عنها انه خجل يدفع إلى التفكير ويثير الفضول فهي لا تزعجنا بحضورها وهي تطل علينا بين الفينة والأخرى وهي تثيرنا وتجلعنا نلاحقها. اللمسة المحلية هنا خلاقة ومدهشة وفي نفس الوقت تظهر الاشكال في غاية التشكيل التقني لأنها ببساطة تنتمي لهذا العصر الذي تسود فيه التقنية على ما سواها من أدوات ويستجيب لها الشكل المعماري ايما استجابة ويتفاعل مع معطياتها حتى أننا صرنا ننسى المعماري مقابل المنتج التقني نفسه. ما يدهشنا حقا هو هذه الدوائر المعمارية التي تكرر نفسها وتستعيد قيمها فكلما ابتعدت العمارة عن ثقافتها الانسانية الاولية تاقت إليها مرة أخرى ورجعت بكل تواضع لها، انها تبعد أحيانا لكنها لا تبتعد كثيرا بل تظل في مرمى عيون تلك القواعد والأسس التي قامت على ضوئها مفاهيم العمارة عبر التاريخ، ولعل ما نشاهده من محاولات في الفترة الأخيرة هي جزء من استعادة تلك الأسس التي لا تستطيع العمارة الفكاك منها أنها أسس من أجل مستقبل الانسان ومن أجل المدينة الانسانية، لا المثالية فنحن على يقين أنه لن يكون هناك مدينة مثالية لكن العمارة والمدينة المعاصرة تستحق أن نصنع داخلها فضاءات إنسانية مثالية وتستحق أن نصنع فيها عمارة تخاطب الصورة الذهنية التي في عقولنا لما تعنيه العمارة. انها رسالة لمراجعة تجربة العقد الأول من هذا القرن لعل العقد الثاني يكون هو عقد "المراجعات" فالعمارة التي تفلتت من عقالها خلال العشر سنوات الأخيرة ربما تعود بعض الشيء إلى رشدها.