إحدى المسائل المهمة والعالقة منذ زمن بعيد بالنسبة لي هي كيف تنتقل النظم الأخلاقية إلى نظم جمالية وفنية، أو كيف تؤثر الأخلاق في الفنون. كنت أظن، أن فكرة ربط الأخلاق بالفنون هي فكرة "تجريدية" أو هي مجرد "كلام" يقصد به "تفخيم" الفن وإعطاؤه قيمة أكبر، والحقيقة أنني تفاجأت بالكثير من التوجهات الفنية ذات البعد الأخلاقي المحض. وما أقصده هنا هو أن التوجه الأخلاقي نفسه هو الذي صنع المبدأ الفني. إن تحول المبدأ الأخلاقي إلى مبدأ فني وتأثيره بعمق في تفاصل المنتج الفني إلى درجة أنه شكّل مدرسة بصرية وحرفية خالصة مهم بالنسبة لنا عند دراستنا للفنون التي نشأت في الحضارة الإسلامية، وأنا شخصيا على قناعة كاملة بأن المبدأ الأخلاقي شكّل الصورة العمرانية بشكل عام في المدينة العربية الاسلامية، وما أسميته في السابق "الأخلاق الحضرية" هو توجه حقيقي يمكن قراءته في المنتج الجمالي والعمراني في المدينة العربية العتيقة. هذا الرابط بين "الاخلاق" و "العمارة" و "الفن" يجب أن يكون هو المدرسة الفكرية الاساسية في درسة الفنون العربية/الاسلامية وما يمكن أن أسميه "الأخلاق الفنية" هي الفنون التي تعتمد بشكل رئيسي على الآخلاق في نشأتها وتطورها، في اعتقادي أن هذا المبدأ هو الأساس في قراءة الفنون العربية/الاسلامية. هناك مجموعة من المبادئ حول التراث العمراني التي تحتاج منا بعض التفكير، فمثلاً نحن لا نفضل كلمة «تطور» Evolution، ونرى أن الفن الإسلامي والعمارة العربية/الإسلامية مبنية على فكرة الشغل والعمل التفصيلي الذي يطور الأشياء والأشكال (التطوير) Elaboration. هناك مجموعة من المبادئ حول التراث العمراني التي تحتاج منا بعض التفكير، فمثلا نحن لا نفضل كلمة "تطور" Evolution ونرى أن الفن الاسلامي والعمارة العربية/الاسلامية مبنية على فكرة الشغل والعمل التفصيلي الذي يطور الاشياء والاشكال (التطوير) Elaboration ويجب أن نؤكد هنا أنه من الضروري على الباحث في مجال العمارة أن ينظر إلى الكيفية التي طور بها المسلمون عناصرهم المعمارية فإذا أردنا أن ندرس المئذنة يجب أن نرى كيف طور المماليك وبعدهم العثمانيون المآذن لا أن نتوقف عند دراستها في القرى والبلدات المحلية التي لم تتطور فيها تلك المآذن، وهذا ينطبق بالطبع على العناصر المعمارية الأخرى مثل الفناء والمشربية وحتى عمارة المسجد والبيت والعناصر الأخرى. والحقيقة أن الفرق بين "التطور" وبين "التطوير" له دلالاته الشرعية فغالبا ما تشير كلمة "التطور" إلى النظرية "الداروينية" التي تعني أن المخلوقات والاشياء تطورت من أصول مختلفة عن شكلها الحالي، فالإنسان تطور عن القرد بينما تعني كلمة "التطوير" أن المخلوق أو الشيء تطور من نفس جنسه لكنه مر بتجارب أو تعامل معه حرفيون مهرة صنعوا منه شكلا متطورا لكنه مازال مرتبط بجذوره وأصله. الفرق هنا كبير، والعمارة العربية الاسلامية بكل فنونها هي عمارة "تطويرية" وليست "تطورية" فهي لم تخلق من العدم ولم تتطور من اصول انقطعت عنها بل هي في الاصل فنون "أخلاقية" وتطورها كان ضمن القاعدة الاخلاقية التي نشأت منها. ويؤكد بعض المهتمين بالتراث العمراني، أن العمارة تعتمد بشكل رئيس على تعاقب الاحداث، أي أنه يوجد "دراما" في التصميم المعماري لابد أن يقود إلى نهاية ما، فإذا كان التصميم لا يحقق هذا التعاقب في الاحداث وفي قيادة مستخدم المبنى إلى النهاية فإن هذا التصميم "فاشل". نظرة هؤلاء للعمارة العربية الاسلامية أنها عمارة "درامية" تصنع الحدث وتقود المشاهد على المستوى الفراغي والبصري ترتكز على فكرة العلاقة بين الاشكال المختلفة التي تحتويها العمارة في مكان واحد، فمثلا كل عمود في المسجد بالنسة له "حدث" أنه يعني "مدرسة" تعليم ويعني تحلق طلاب العلم حول الشيخ في المسجد. في هذه العمارة، كل شيء مقصود وله وظيفة ويصنع أحداث لا نهائية. العقود المصطفة خلف بعضها البعض والمشهد البصري الحركي الذي تصنعه وعلاقتها بالضوء والعتمة، الأحداث الدرامية التي تصنعها العمارة العربية/ الاسلامية لا نهائية، وتطورها نابع أصلا من التعلم من هذه الاحداث وفكرة "التجربة والخطأ" تحددها هذه الاحداث التي تعمل بمثابة المرآة النقدية التي تطورت على ضوئها العمارة العربية طوال القرون الماضية. كلمة "تجريدي"، على سبيل المثال، توصف بها الزخارف التي تطورت في الحضارة العربية/الاسلامية، فهذه الزخارف والفنون لا تصور خلق الله بشكل مباشر لكنها تتعامل معها بتجريدية عالية جدا، لكنها ليست التجريدية التي يفهمها الغرب، فبيكاسو، الفنان التشكيلي الاسباني المشهور يقول: إنني أجرد اللوحة من أجل الإثارة، وكان يقول إن الاثارة هي كل ما يعنيني، بينما يقوم الفن الاسلامي على "الجيومتري" الذي له اساس رياضي تجريدي عميق. والحقيقة أن كلمة "تجريدي" مثيرة للجدل، فهي مشتقة في العربية من كلمة "مجرد" وجرد الشيء أي نزع عنه بعض مافيه أو عراه. إن التجريد عند الغرب هو "تشويه" وفي العربية، لغويا، تعني تعرية الاشياء أو نزع بعض ما فيها وهذا لا يبتعد عن التشويه نفسه، مما يجعل من استخدام كلمة "تجريدي" لوصف الفن الاسلامي فيه مغالطة كبيرة. اعتقد أن وصف الفنون العربية/الاسلامية بأنها فنون أخلاقية هو الوصف الصحيح بدلا من استخدام مصطلحات لا تمت لثقافتنا بصلة. ربما تكون الاشكالية الكبرى في وقتنا الراهن هو النقد الموجه للنقل من الماضي، فالثقافة العربية المعاصرة توصف بأنها "ماضوية" وأنها "غارقة في الماضي" إلى الدرجة التي لم تستطع فيها معايشة الحاضر وهذا ينطبق على العمارة، على أنني شخصيا مؤمن بفكرة التعلم من الماضي بل ومؤمن بأن النقل من الماضي ليس خطأ ولكن كيف تنقل من الماضي، كيف نتعلم من كل هذه الكنوز، فالمسألة ليست كما نرى الاشياء بل كما ننفذها فهل نستطيع تنفيذ المقرنصات بشكل صحيح وهل نستطيع أن نبني عقوداً مخموسة ومدببة بنفس نسبها التاريخية. الإشكالية هنا في المقدرة الفنية على التنفيذ Knowhow . إن مشكلة كل المعماريين العرب المعاصرين أنهم وقعوا في مأزق استسهال النقل من التاريخ دون مقدرة حقيقية على النقل ودون فهم للتاريخ أصلا. المضحك المبكي أن هناك من ينقل الشكل التاريخي ويقوم بتضخيمه وجعله شكلا عملاقا ويعتقد أنه حقق النسب المطلوبة وينسى أن هذه الاشكال التاريخية تطورت ضمن مقاس إنساني حافظ على بريقها الجمالي. التعامل مع الشكل التاريخي، سيظل قضية وسراً يحتاج إلى فهم وعمق وليس مجرد نقل.