مستشفى الدكتور سليمان فقيه بجدة يحصد 4 جوائز للتميز في الارتقاء بتجربة المريض من مؤتمر تجربة المريض وورشة عمل مجلس الضمان الصحي    ترمب يستعد لإبعاد «المتحولين جنسيا» عن الجيش    «الإحصاء»: الرياض الأعلى استهلاكاً للطاقة الكهربائية للقطاع السكني بنسبة 28.1 %    وزير الصناعة من قلب هيئة الصحفيين بمكة : لدينا استراتيجيات واعدة ترتقي بالاستثمار وتخلق فرصا وظيفية لشباب وشابات الوطن    السعودية الأولى عالميًا في رأس المال البشري الرقمي    استقرار أسعار الذهب عند 2625.48 دولارًا للأوقية    الطائرة الإغاثية السعودية ال 24 تصل إلى لبنان    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    سجن سعد الصغير 3 سنوات    تحديات تواجه طالبات ذوي الإعاقة    حرفية سعودية    تحدي NASA بجوائز 3 ملايين دولار    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    «الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    فصل التوائم.. أطفال سفراء    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    ضاحية بيروت.. دمار شامل    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    ألوان الطيف    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    القتال على عدة جبهات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    كلنا يا سيادة الرئيس!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



درسوا الهندسة لكنهم انصرفوا عنها لاهتماماتهم التلقائية العميقة
نشر في الرياض يوم 06 - 07 - 2014

لست أتحدث عن أشخاص بل أستشهد بإبداعاتهم لنظرية (عبقرية الاهتمام التلقائي) التي هي أيضا امتدادٌ لنظرية أشمل عن (تلقائية الإنسان) فهذا المقال هو جزءٌ من فصل واحد ضمن كتابي (عبقرية الاهتمام التلقائي) وهو يستهدف تأكيد فشل التعليم القسري وخواء التعلُّم الاضطراري وضرورة أن يركز التعليم على إثارة الاهتمام التلقائي وتكوين الشغف الذاتي أما من دون ذلك فإن التعلُّم الاضطراري سيبقى ضياعًا في الأعمار والأموال والآمال وقد شاهدنا كيف يؤدي ذلك إلى كراهية التعلُّم وكراهية كل ما يرمز إليه مثل الكتاب
إن الناس يتألمون من الإكراه وينفرون من القسر بينما يبتهجون بالانطلاق الحر فلا تستجيب قابلياتهم إلا لما يتفق مع ميولهم ورغباتهم واهتماماتهم التلقائية لذلك فإن الدراسة الاضطرارية الرتيبة لا تصنع إنسانًا فاعلاً وهي أبعد ما تكون عن أن تُنتج مثقفين قادرين على التأثير الخلاق
المدرسي والمباني المدْرسية حيث قام التلاميذ الصغار بتمزيق الكتب في مشهد صارخ يحمل دلالة موجعة ولعلها أن تكون موقظة كما قام تلاميذ كبار بتحطيم نوافذ المدرسة في تعبير شديد الوضوح على بُغض المدْرسة والنفور مما ترمز إليه إنه مشهدٌ مفزع لكنه مفهوم السبب وإنها لنهاية مأساوية تستوجب المراجعة الفاحصة والعلاج الناجع فقابليات الإنسان لا تنفتح قسرًا وإنما تنفتح بالاهتمام التلقائي والاثارات المتجددة.
إن قابليات الإنسان هي ثروته الحقيقية بل هي الثروة المتجددة للإنسانية كلها وباستثمارها يتحقق ازدهار الأمم ورخاء الشعوب ولكن هذه القابليات لاتستجيب إلا لمن يملك مفاتيحها إنها تعمل تلقائيًّا بدوافع ذاتية وبواعث قوية واحتياجات ملحة واهتمامات عميقة إن قابليات الإنسان لا يمكن اغتصابها ولا قسرها حتى من الدارسين أنفسهم إن الشغف بالمعرفة وهضمها يُشْبه اشتهاء الغذاء وهضمه فلا بد أن يأتي الاهتمام تلقائيًّا من داخل الذات وهذا هو موضوع كتابي (عبقرية الاهتمام التلقائي) فالناس لا يتعلمون تعلُّمًا حقيقيًّا ولا ينجزون إنجازات متميزة ولا يبدعون ولا يكتسبون المهارات إلا بدوافع تلقائية.
إننا حين نتحدث عن الذين تخرجوا مهندسين وانصرفوا عن تخصصهم الدراسي واستغرقوا في مجالات اهتماماتهم التلقائية العميقة سوف يتبادر إلى الذهن اسم المبدع الأشهر دستويفسكي فقد تَخَرَّجَ مهندسًا لكن العالم عَرَفَه مبدعًا في مجال مختلف كليا لقد بنى لنفسه مجدًا شامخًا بمحض اهتمامه التلقائي القوي المستغرق إنه يقول عن التدفق التلقائي من أعماق الذات: "إن الحقيقة العدالة ليست خارجك بل هي في ذاتك فاعثر على نفسك في ذاتك أخضع نفسك لنفسك تحكَّم في نفسك بنفسك وستعثر على الحقيقة إنَّ هذه الحقيقة ليست خارجك في مكان مجهول وراء البحار بل هي قبل كل شيء في اشتغالك على ذاتك وستصبح حُرًّا كما لم تحلم به من قبل وبذلك ستنجز عملاً عظيمًا وستجعل الآخرين أحرارًا وستكتشف السعادة لأن حياتك ستمتلئ وستُفهم شعبك حقيقته المقدَّسة" هكذا هو الإنسان إذا عَرَفَ مفتاح قابلياته واشتغل عليها باهتمام قوي مستغرق وبجهد كثيف منظَّم فإنه يستطيع أن يملأها بما يختاره وينتقيه ليجعلها تُشعُّ بالضياء وينساب منها الإبداع وتنتشر منها الحكمة إن المكانة الإبداعية لدستويفسكي لهي مكانة باذخة وقد تناولتُ إبداعاته بشيء من التفصيل في بحث مستقل أما هذه فهي مجرد إشارة لأن مجده الإبداعي أعظم من أن يتم الحديث عنه ضمن هذا المقال.
ولو نظرنا إلى الظاهرة الإبداعية من الوجه الآخر فبدلاً من الحديث عن مهندسين أخذتهم اهتماماتهم التلقائية إلى مجالات متنوعة يصح الحديث أيضا عن الذين اختلفت تخصصاتهم والتقوا في مجال إبداعي واحد كالفن الإبداعي الروائي فسوف نجد أن دستويفسكي يلتقي مع مبدعين آخرين للفن الروائي العجيب جاءوا من تخصصات متنوعة مثل بروست الذي تخصَّص دراسيًّا في القانون لكنه أبدع في الفن الروائي أو يلتقي بمن جاء للفن الروائي من تخصص اللسانيات كما هو شأن أمبرتو إيكو أو بمن جاء من تخصص الفيزياء كما هي حال تشالز سنو أو بمن جاء من تخصص الطب مثل يوسف إدريس أو يلتقي بمن اعتمدوا على أنفسهم في التعلُّم مبكرين ولم يتلحقوا بأية جامعة مثل جوركي وفرجينيا وولف وهمنجواي وأناتول فرانس وغيرهم.. وهكذا هو الإنسان لا تحركه معلومات حفظها اضطرارًا وإنما تحركه اهتماماته التلقائية العميقة فإذا أردنا أن نحصل من التعليم على نتائج مكافئة لما يُبذل فيه من الأموال والأعمار والطاقات على تتابع الأجيال فلا بد أن ندرك هذه الحقيقة الأساسية وأن نتعامل معها بما يضمن نجاعة العملية التعليمية وبذلك يصير المتعلمون قدرات إبداعية مثمرة وطاقات انتاجية متجددة ترتقي بهم البلاد.
وننتقل لنموذج آخر في إبداع مختلف وربما أن كثيرين يقرأون مؤلفات المفكر الفرنسي الشهير جان جاك سرفان شرايبر من غير أن يعرفوا أنه متخصِّص دراسيًّا في الهندسة لكن ليس لنشاطه ولا لإنتاجه ولا لأسباب شهرته وعلو مكانته أية علاقة بالهندسة لقد عمل في الصحافة ووقف بجرأة ضد وطنه فرنسا أثناء حرب التحرير الجزائرية فعاقبته السلطة بأن أرغمته على الاشتراك في الحرب فأصدر عن ذلك كتابه (ملازمٌ في الجزائر) فحوكم على ذلك.. لقد كان ناشطًا سياسيًّا ونائبًّا في البرلمان وأمينًا عامًّا للحزب الراديكالي.. وحين صدر كتابه (التحدي الأمريكي) تمت ترجمته إلى معظم لغات العالم وكما يقول الدكتور سبع أبو لبده: "عندما صدر كتاب التحدي الأمريكي في فرنسا عام 1967 تخاطفته الأيدي وفاقت مبيعاته في أول ثلاثة شهور مبيعات أي كتاب صدر في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية وأصبح أكثر الكتب رواجًا في العالم إذْ تُرجم إلى عشرين لغة في أقل من سنة وفي طول أوروبا وعرضها لم يبق سياسي أو أستاذ جامعي أو صحافي أو رجل مال أو أعمال أو موظف إلا وقرأه واقتبس منه واستشهد به.. وفي أمريكا بلغ الاهتمام به إلى حد أنهم دعوا صاحبه ليناقشوه فجاء ونازلهم على شاشة التلفزيون".
وبعد ذلك صدر كتابه الثالث (التحدي العالمي) فلقي من الاهتمام والرواج ما لقيه سابقه فشرايبر واحدٌ من ألمع وأشهر المثقفين في العالم كما أنه في المجال الصحفي كاتبٌ قديرٌ ومفكر مثير أما في كتابه (روح مايو) فقد حلَّل فيه أسباب ثورة الطلاب عام 1968 واعتبرها دلالة مهمة على ضرورات التغيير أما كتابه (سماء وأرض) فهو استكمال لما تناوله في كتابه (التحدي الأمريكي) فأبرز فيه رؤاه في التعليم والسياسة والاقتصاد والأوضاع الاجتماعية.
إن الناس يتألمون من الإكراه وينفرون من القسر بينما يبتهجون بالانطلاق الحر فلا تستجيب قابلياتهم إلا لما يتفق مع ميولهم ورغباتهم واهتماماتهم التلقائية لذلك فإن الدراسة الاضطرارية الرتيبة لا تصنع إنسانًا فاعلاً وهي أبعد ما تكون عن أن تُنتج مثقفين قادرين على التأثير الخلاق وكما يقول المفكر الدكتور نديم البيطار في كتابه (المثقفون): "الميزة الأساسية التي تميِّز المثقف الحقيقي ليست الشهادات الجامعية العليا.. ليست الدكتوراه التي أُسَمِّيها الأمية الحديثة ليست حتى عدد الكتب التي يكون قد قرأها بل هي استيعابه وتمثُّله وليس فقط إدراكه لهذا العقل العلمي وقدرته على ممارسته في المشاكل التي يدرسها ويعالجها وفي الحوار أو النقاش الذي يدخل فيه حولها.. إنها القدرة على الموضوعية العلمية والعقلانية العلمية والعقل النقدي في استيعاب المعرفة... أن يكون مثقفًا حقيقيا... لا يتوفر عن طريق القراءة أو الشهادات الجامعية أو المعرفة فقط بل بإدراك طبيعة المعرفة الحقيقية".
وننتقل لمثال إبداعي مختلف فجورج سوريل دَرَسَ الهندسة الإنشائية وعمل في مجال إنشاء الطرق وتشييد الجسور لكنه شاهد العمال وهم يكابدون تحصيل لقمة العيش فتخلى عن مهنة الهندسة واستقال من الوظيفة وامتهن العمل الصحفي ليدافع عن العمال كما انهمك في دراسة أوضاع العمال باحثًا عن أي مفتاح يتيح تحسين أوضاعهم والارتقاء بوعيهم فأسهم في التنظير الاجتماعي والسياسي وصار معدودًا من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد ونَشَرَ في ذلك عددًا من المؤلفات منها (مدخل إلى الاقتصاد الحديث) و(مستقبل النقابات) و(مراجعة العالم القديم) و(مذهب رينان التاريخي) و(تأملات في العنف) و(حول فائدة الذرائعية) و(محاولة في الكنيسة والدولة) يقول عنه رونالد سنزومبرج في كتابه (تاريخ الفكر الأوروبي الحديث): "مما لا شك فيه أن سوريل كان منظِّرًا سياسيًّا لامعاً لكنه فَقَدَ إيمانه بالعقل والمجتمع" إنه كغيره من المفكرين يفقدون ثقتهم بالناس بعد أن يجتهدوا في رفْع شأنهم فلا يجدون الاستجابة المنتظرة وبهذا يكتشفون مهزلة العقل البشري فهو لا يفيق ويبصر الحقائق مهما بلغت من الوضوح إذا كانت تغاير ما ألفوه واعتادوا عليه وتبرمجوا به إلا في حالات نادرة فالمفكرون الرواد يتم غالبًا استبعادهم والتحذير منهم ومحاصرة أفكارهم فيبقون غالبًا منبوذين ويظلون خارج النسق السائد فأكثر الرواد يموتون قبل أن يستجاب لهم وربما مرَّتْ القرون دون أن يجدوا من يدرك أهمية مايقدمون إنهم في كل العصور عاشوا مرارات الخذلان.
يقول عنه برنار نوئيل: "جورج سوريل فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي.. كان مهندس جسور وطرقات واتصل بحكم طبيعة عمله بالطبقة العاملة فأكنَّ لهم إعجابًا شديدًا وقد تولَّد لديه اقتناعٌ بأن القيمة الإنسانية والاجتماعية لهذه الطبقة تمثل القوة الوحيدة القادرة على إحياء بشريتنا وتجديدها فاستقال من عمله وراح يساهم في تحرير صحف ومجلات بهدف إرساء أسس أخلاقية اجتماعية صارمة.. كان يعتقد بنمط جديد للحياة ويبحث عن الدروب الكفيلة بالإيصال إلى ذلك النمط وعن القوانين الخلقية ببنائه " لكنه اكتشف الحقيقة المغموسة بالمرارة عن جهالة الناس وانغلاقهم وعجزهم عن إدراك أهمية الأفكار المغايرة التي يقدمها الرواد فالناس عمومًا يكونون غارقين في الأوهام ونافرين من الحقائق ولا يطيقون رؤية ولا سماع ولا القراءة لمن يحاول تغيير التصورات التي انعجنوا بها وتشربتها نفوسهم وتشكلت بها عقولهم وتحددت بها اتجاهات عواطفهم إن استقالة شرايبر من وظيفته المجزية واندفاعه في نشاط مجهول النتائج ومحفوف بالمخاطر يؤكد أن الاهتمام التلقائي القوي المستغرق أقوى من المكاسب المادية ومن الأمان الوظيفي فالاهتمام حين يتحول إلى هم مؤرق لا بد أن يستجاب له فهو طاقة متفجرة يصعب إطفاؤها.
وننتقل لنموذج إبداعي مغاير فالمبدع الأمريكي نورمان ميلر متخصِّص دراسيًّا في هندسة الطيران لكنه اشتهر كمبدع روائي وكاتب صحفي وناشط سياسي وصاحب مواقف جريئة نال جائزة بوليتزر الصحفية مرتين عن إنجازاته في المجال الصحفي أما في الإبداع الروائي فله انتشارٌ واسع ومن أعماله (القلعة في الغابة) و(العراة والموتى) و(الشاطئ البربري) و(الحلم الأمريكي) و(إعلانات من أجلي) و(العبقرية والشهوة) و(لماذا نحن في فيتنام) وله كتاب عن (مارلين مونرو) وآخر عن (ازوالد) المتهم بقتل جون كنيدي والمهم أنه أبدع في مجال يختلف كليًّا عن مجال تخصصه الدراسي بل لقد أبدع في عدة مجالات كانت كلها محل اهتمامه التلقائي القوي المستغرق.
إن الإنسان لا يتعلم تعلُّمًا حقيقيًّا ولا يبدع ولا يكتسب المهارات إلا في مجالات اهتمامه التلقائي حيث يستنفر المجالُ طاقته ويستثير الكامن في أعماقه ويدغدغ عواطفه ويفتح أجهزة الاستقبال في نفسه فتمتص قابلياته الأفكار والمعارف والتمارين والتدريبات بفاعلية حتى تفور قابلياته اكتظاظًا فيفيض منها الإبداع كفيضان الماء من النبع المكتظ لقد نشأ نورمان ميلر شغوفًا بالأدب منذ صباه لكنه أكمل الدراسة الجامعية في هندسة الطيران انسياقًا مع التيار العام غير أن الدارسين لحياته وإبداعاته لا يذكرون هذه المحطة من سيرته إلا كفترة عابرة ليست ذات أهمية في تكوينه الفكري والإبداعي لقد كان الإنسان الفرد هو محور اهتمامه وموضوع تفكيره فهو في كل أعماله يؤكد على أولوية الإنسان الفرد والمطالبة بأن يتاح له تحقيق ذاته أما تذويبه في المجموع فهو عدوانٌ عليه وإلغاءٌ لوجوده الفردي.
وننتقل لإنجازات إبداعية لمهندس إنشائي في عدد من العلوم الاجتماعية إن فلفريدو باريتو متخصصٌ في هندسة الإنشاءات لكن اهتمامه التلقائي كان واسعًا وعميقًا ومتأجِّجًا فقد تخلَّى عن مجال تخصصه الدراسي فأسهم بنظريات مهمة في علم الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم السياسية وعلم الإدارة وكان لبعض أفكاره كفكرة 80 / 20 امتدادٌ لكل مجالات الحياة.
كتب عنه سوروكني وهو من أشهر دارسي فكره: "تميَّز فكر باريتو بالأصالة والقدرة ولهذا فإن مؤلفاته أحدثت أثرًا عميقًا في الفكر الإجتماعي والإقتصادي والسياسي على السواء" أما ادوار بيرنز فيؤكد في كتابه (النظريات السياسية) الإسهام المهم لباريتو في النظريات السياسية.
اهتمَّ باريتو أوَّلاً بالاقتصاد اعتقادًا منه بأنه المفتاح الذي من خلاله يمكن تحقيق النمو المتوازن والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة ولكنه فوجئ بالمقاومة التلقائية فأصيب بخيبة أمل فتحول لدراسة المجتمع ذاته في محاولة منه لمعرفة مصدر الخلل وأسباب هذه المقاومة التلقائية للأفكار الإصلاحية حتى من الجماهير الذين استهدفت الأفكار نفعهم ولكنه واجه المعضلة ذاتها فواجهه الجميع بالمقاومة وأخيرًا تحول إلى الفكر السياسي ليبحث عن منفذ يستطيع من خلاله أن يؤثر في الجماهير ولكنه في كل هذه المحاولات ينتهي إلى أن الإنسان ليس مقودًا بالعقل ولكن مقودٌ باللامعقول فيقول: "فنحن نعجز عن تحمُّل الذي يسلبنا أوهامنا والذي يذهب أبعد من هذا فيبين أن الكلمات التي نستعملها ونتداولها تحتوى على الأوهام" ويقول: "إن الأسطورة مازالت تعيش في أعماقنا" وهو يعني بذلك أوروبا المزدهرة وليس العوالم المتخلفة فالإنسان كائنٌ تبريري وليس كائنًا منطقيًّا فهو يستخدم المنطق لتبرير ما يهواه إنه مخلوق اسطوري فلا يستجيب لحقائق العلم إلا بما لا يتعارض مع أوهامه وأساطيره.
وخلال هذه التحولات أنجز كتابه (دروس علم الاقتصاد السياسي) ثم (الأنظمة الاشتراكية) ثم (موجز علم الاقتصاد السياسي) ثم (اسطورة الفضيلة والأدب والأخلاق) ثم (العقل والمجتمع) ثم (وقائع ونظريات) ثم (تحوُّل الديمقراطية) لقد كان متوقد الاهتمام بالشأن العام وكان يحلم بالعدالة والنمو والازدهار والرخاء للجميع وكان متأجج النشاط وغزير الانتاج وحاد النقد إلى درجة التهكم بالكل والسخرية من الجميع.
ومثلما أن باريتو تخلَّى عن الهندسة وهَجَر وظيفته وقذف بنفسه في مشكلات المجتمع باحثًا عن الحلول في علم الاقتصاد ثم في علم الاجتماع ثم في علم السياسة فإنه في كل هذه المجالات قد التقى بمهتمين مثله جاءوا من تخصصات متنوعة لقد أرَّقتهم اهتماماتهم التلقائية القوية فاندفعوا باحثين عن مصدر الخلل وعن آفاق الحل فالإنسان لا تحركه معلومات تلقاها مضطرًّا وإنما تحركه اهتماماته التلقائية العميقة ولم يكن باريتو مجرد مستطلع أو مردِّد لما قاله المتخصصون في هذه الفروع المعرفية وإنما كان منظِّرًا ومسهمًا نظريًّا أصيلا في هذه المجالات العلمية.
إننا نجد أشخاصًا درسوا الهندسة بمجالاتها المختلفة لكن اهتماماتهم التلقائية هي التي استغرقت حياتهم فالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات تخرج في كلية الهندسة لكن الاهتمام التلقائي العميق بالقضية الفلسطينية هو الذي استغرق جهده وطاقته وحياته.
ويأتي في الاتجاه نفسه اسم المهندس أحمد سوكارنو الرئيس الأسبق لأندونيسيا الذي قاوم الاستعمار وقاد بلاده إلى الاستقلال وكان من الزعماء البارزين في حركة عدم الانحياز مع الرئيس اليوغسلافي الأسبق تيتو والرئيس المصري عبد الناصر والرئيس الهندي آنذاك نهرو وآخرين ولا يزال العالم يذْكر أول مؤتمر للحركة الذي عُقد في باندنج في أندونيسيا وكان سوكارنو وقتها رئيسًا للجمهورية الأندونيسية قبل أن ينقلب عليه الدكتاتور سوهارتو.
عَرَف العالم الأديب الروسي فكتور اندرييفتس كرافشنكو الذي ضاق باستبداد ستالين وانتهز فرصة اشتراكه في وفد إلى الولايات المتحدة فطلب اللجوء السياسي وأصدر كتابه (آثرت الحرية) وهو من الكتب التي لقيت اهتمامًا عالميًّا ورواجًا واسعًا فجرت ترجمته إلى الكثير من لغات العالم ومنها اللغة العربية إن التاريخ لن يذكره بتخصصه المهني في الهندسة ولكنه سيظل علامة بارزة في مقاومة الاستبداد وجسارة المواقف والانتصار للحرية والعدالة والإنسان أما المهندس المضاد فهو لافرنتي بافلوفيتش بيريا الذي كان أيام ستالين على رأس جهاز البوليس السياسي ثم صار وزيرًا للداخلية ونائبًا لرئيس مجلس الوزراء وتَذْكُر عنه المصادر أن: "اسمه ارتبط بالسياسة الستالينية بوصفه الأداة المباشرة في تنفيذها" فالتخصص الدراسي هو لتوفير المهنيين للأعمال المختلفة وليس لسجن الطامحين سواء كان طموحهم نحو أعمال الخير أم نحو أعمال الشر.
إن نجم الدين أربكان الزعيم والسياسي التركي لن يذكره التاريخ بوصفه متخصِّصًا في هندسة الميكانيك وإنما سيذكره بكفاحه في المجال التنموي والاجتماعي والسياسي فقد كان خلف التحولات التي قادت تركيا إلى وضعها الحالي.
وفي السياق نفسه يأتي اسم رئيس حزب العمل في مصر المهندس ابراهيم شكري.. وكذلك رئيس حزب العدالة التركي المهندس سليمان ديميريل الذي ترأس الحكومة التركية أكثر من مرة ومثله مهندس الكهرباء تورغوت أوزال الذي أسَّس (حزب الأم) وصار رئيسًا للحكومة التركية ويقال بأنه مات مسمومًا.
ويأتي في الاتجاه نفسه الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد الذي يحمل الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية وعمل استاذًا لهذا التخصص قبل أن يتحول كليا للنشاط السياسي.
دوم منتوف.. تخلى عن مهنته كمهندس معماري وناضل في سبيل استقلال مالطا عن بريطانيا.. أصبح رئيسًا لحزب العمال المالطي وانتزع الاستقلال لبلاده وترأس الحكومة المالطية مرتين وضم مالطا لمنظومة عدم الانحياز ثم استقال لأسباب صحية وقد أشاد به واعترف بدوره الوطني رئيس الحزب المنافس وهو من ألد خصومه.
إن المساحة المتاحة لهذا المقال لا تسمح بأكثر من ذلك فالذين لم أذكرهم هنا سوف أذكرهم حين استكمل الفصل في الكتاب وهم لا يقلُّون أهميةً ولا مكانة عن الذين ذكرتهم ومنهم مهندس الكهرباء مالك بن نبي وهو مفكر يعرفه الجميع ومثله المهندس أحمد بوقري الذي يُعَدُّ من أبرز مفكرينا وكذلك المهندس حمد العيسى والدكتور المهندس محمد شحرور وغيرهم من المثقفين والباحثين والسياسيين وقادة الفكر والمبدعين في مختلف المجالات.
إن فاعلية التعليم يجب أن تستهدف إزالة الحواجز النفسية ومعالجة العلل الفكرية وإثارة الاهتمام التلقائي بالعلم وأن تُرَكِّز على خلخلة موانع النهوض وليس على إعطاء معلومات حيادية يتجرَّعها الدارسون اضطرارًا فلا تؤثِّر في العقول ولا تصحح المسار ولا تغيِّر التوجُّه فالعلم ليس معلومات وإنما هو أسلوب حياة وسلسلة عادات فكرية وسلوكية ومنظومة قيم وأنواع اهتمامات واتجاه حركة وكما يقول عالم الرياضيات الفيلسوف وايتهد في كتابه (مغامرات الأفكار): يجب علينا أن نفهم أسباب العظمة والقيود النهائية التي قيَّدتْ التقدم إذْ أنها تعني محاولة التوصل إلى حل للمشكلة الأساسية في علم الاجتماع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.