شخصياً لا أذُم الأول، ولا أقدح بالثاني، ولا أسفّه الثالث، فكلها أذواق وأرزاق جاءت إلى ذائقة المستهلك حديثاً، ولم تكن موجودة في حقب سابقة من الثقافة الغذائية. ربما أن الأبحاث الخاصة بالحمية الغذائية - وما أكثرها - وجدت أن هذا أنسب من ذاك. ونتوقع بحوثاً مقبلة ستقول لنا: لا، فالبحوث السابقة فيها كثير من المبالغة والتسرّع، وأن اللبن أو الحليب الكامل الدسم هو ما تتطلبه صحة الإنسان لمده بالطاقة، وأن القليل الدسم والمنزوع الدسم أتى بالعبث. وجعل الحليب مادة تفقد عنصراً أساسياً طبيعيا (غير مضاف). أظن - وبعض الظن إثم، وبعضه الآخر غير إثم - إن المسالة لا تعدو أن تكون تسويقاً عصرياً للمُنتج. فلو انتجت مصانع الألبان خطّاً واحداً بنمط واحد، لمل الناس من إطراد رتيب وتماثل مُردد (لن نصبر على طعام واحد). فجاءت عبقريات التسويق الحديث لتقول لنا كمستهلكين إن الدسم الكثير مضر لنشاط الكبد، ولمكافحة السمنة وللجهاز الهضمي، وعلى شارب اللبن أن يختار قليل الدسم أو منزوعه. لا أشوّه الأبحاث العلمية التي أجريتْ على الألبان وعلى كبد الإنسان، لكنني أصر على أن الأبحاث ستتبعها أبحاث، ثم نعود إلى حقيقة قرآنية كريمة تقول: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ)، وفي آية أخرى (مما في بطونها). فلم تأت عبارة قليل الدسم أو كثيره، فهو لبن خالص سائغ. ونعترف بتاريخنا الغذائي الذي يقول إن عدد البقرات في منازل الأسَر هن معيار السعة والثراء. فالبقرة الحلوب ثروة وكذلك ما يحوي المنزل من شياه وماعز. والزبدة كانت جوهرة الغذاء وسعادة وطاقة لمن قُدر له أن يحصل على الحليب أولاً، تليه الزبدة ثم اللبن. (ولا أي منها قليل الدسم أو منزوع الدسم). لكن الحياة العملية والركض وراء العيش يجعلان إنسان ذلك العصر لا يفكر بقليل الدسم، بدليل أن تعبير الغذاء الجيد هو "تدسيم الشوارب".