الاعتقاد السائد لدينا -في العالم الثاني أو الثالث- أنَّ الغرب أو العالم الأول هو منبع الديموقراطية والحرية، وأنه موئل العدل والمساواة، ولم يدر بخلدنا أن القيم والأخلاقيات والسلوكيات قد تكون نسبية، وأنها قد تنسف في لحظة ما دون أن تبدى الدوافع أو تبسط الأسباب، كذلك لم يخطر في البال أن بني آدم يمكن بسهولة متناهية أن تعتريهم حالات غير إنسانية أبداً فيرتكبون أخطاء وذنوباً يخجل منها الصخر الأصم، وقد قيل في مضارب الأمثال القديمة قدم البشرية: إنك عندما تضع الماء على النار فإنه يتحول إلى حال تواتيك إلى ماتريد منها، وعندما تبعده عنها يعود إلى حالته وطبيعته، وهذه تحديداً هي حال البشرية مع الثقافة والتطور والتحولات الإيجابية. أما كيف تتم تجربة إبعاد أقوام من بني آدم عن نار الثقافة والتطور والتحولات الإيجابية فذلك أمر يتصل بنوعية التركيبة الإنسانية وبصدق التماهي مع ثقافة الموقف وبحقيقية الانفعال والانجدال والانصهار بشعلة التطور والتحولات. السفير الفرنسي لدى إمارة (أندورا) السيد (زاير قدادوش) يقدم استقالته إلى الرئيس الفرنسي، ويكتب رسالة شكوى واحتجاج يقول فيها مخاطبا الرئيس: (لقد لقيت في وزارة الخارجية أكثر أنواع العنصرية انحطاطاً) !!.. (الشرق الأوسط .. العدد ذي الرقم 12951). هذا الإنسان الوزير الذي ولد وتربى ونشأ ودرس وتعلم في فرنسا وانخرط في العمل الوطني والدبلوماسي ووظف علمه وعبقريته حتى وصل إلى الوزارة وصار سفيراً لبلد النور يتعرض لأبشع صيغ العنصرية -فقط- لأنه من أصل عربي جزائري !! تصوروا أيها الأعزاء رجل دبلوماسي مثقف وظف نفسه وثقافته من أجل خدمة البلد الذي ولد فيه ونشأ وتعلم معترفا بالجميل، ولم يستحضر يوما ما أصله الجزائري ولا أرومته العربية، مع أن أحداً لن يلومه لو استحضرها.. هذا الرجل الوزير السفير يكافأ ويجازى بأكثر أنواع العنصرية انحطاطاً .. إلى درجةٍ دفعته إلى أن يقدم استقالته ويخاطب الرئيس بهذه اللغة التي تنضح ألماً و مرارةً وإحباطاً !! ثم تصوروا أين يحدث ذلك .. في بلد من العالم الأول، وفي وزارة الخارجية ، ولرجل وطني مخلص يصرف أيامه ولياليه ويصارع اغترابا لا نهاية له من أجل ذلك البلد !! وإذا كانت هذه العنصرية الكريهة البغيضة المؤذية تنبعث من بين هذه النخب الزمانية والمكانية والبشرية والثقافية والإدارية، فكيف يمكن أن نتصور الأحوال والحالات وفعل الشعل الوهاجة من أجل الثقافة والتطور والتحولات في غيرها من البلدان والعوالم والتجمعات التي لم يصل إليها بعدُ قبس من النيران الموقدة منذ قرون تحت مياه النخب وحاملي جذوة العدل والحرية والمساواة ؟! . وبرغم الفارق العظيم من السنوات الضوئية بيننا وبين العالم الغربي ، لم أستطع أن أتذكر أو أستحضر أننا عشنا شيئاً من ذلك، فلم تصل الأمور حسب علمي إلى أن ترك أحد عمله أو قدم استقالته (وزيراً كان أو كاتب صادر ووارد) من أجل عنصرية من أي نوع! وإذا حدث أن أطلت نعرة من النعرات فإنها سرعان ما تتحول إلى جملة من الطرائف والقصص والحكايات تنتهي بجملة من القبلات والابتسامات. وعلى أي حال، هي ليست موضوعاً رئيسا في العمل والحياة.. أرجو ذلك، وأنا هنا لا أنفي رفض العنصرية من قبل الفئات الواعية كافتها، ولا أفاصل حول أن العنصرية إذا أطلت وبأي شكل فإن امتعاض المكتوين بأوارها لن يقل عن متعاض الوزير (قدادوش) الذي كان من المفترض -في تقدير بعض المناضلين- أن يتجاهل ما يمر به ويحتفظ بمنصبه، ثم يضع أصابعه العشرة في عيون كل الحاقدين.