دائماً ماترد كلمة (الترجمة خيانة) وقد اتكأ عليها كثيرون إما عن طريق المعرفة، أو طريق التقليد: سمعت الشيء فقلت مثله، وتأتي هذه في مواجهة المواقف أو الحديث عن الترجمة، ومع اتفاقي ولو بنسبة بسيطة على (خيانة الترجمة) ككلمة درجت على الألسن وبعض الكتابات، فإنني لا أعمم ولكن أتوجه نحو ترجمة (النص الإبداعي، والشعر خاصة) وهذا ماقصدته. بمعنى أنني لا أنكر دور الترجمة الأساسي في المساهمة في رقي الفكر والإبداع العربي منذ التعامل الأول الذي تمثل في الترجمات من العالمية إلى العربية والعكس، والترجمة إلى العربية هي في نظري أساسية في عملية لفت الانتباه لدى المبدع أو المفكر والكاتب والمتلقي وشده إلى معرفة مالدى الآخر من عمل ومحاولة الاستفادة منه، وكان لهذا دوره في إنعاش الإبداع العربي في محاولة عملية التماهي، والأخذ والعطاء. فالإشارة (قديماً) إلى ابن سينا، وابن رشد، وعبدالله بن المقفع، ولا يفوت رموز الفكر الاطلاع على المماثل من إبداعات وأفكار عالمية عبر التاريخ بطريق الترجمة التي أوجدت المثاقفة، وملاحقة المستجدات مما يثري التنوع في العطاءات التي تتالت ولمسها المهتمون. ومن باب مايندرج في خانة (الخيانة) من موقعي بالتعامل مع الشعر المترجم الذي توجه بعض المترجمين العرب إلى نقل ما استساغوه، أو في رأي بعضهم محاولة نقل الإبداع ومحاولة أن يكون مقارباً أو ربما مساوياً لأصله -هذا في النادر- وقد تمثل في بدايات القرن الماضي حيث اجتهادات من اطلع على الشعر العالمي، فمن نتائج ذلك ما كان من مدرسة (الديوان) لدى عبدالرحمن شكر، وعباس العقاد، وعبدالقادرالمازني، ثم النزعة الى الانعتاق عبر مدرسة (أبوللو) بمساندة الشاعر مطران خليل مطران للشاعر زكي أبي شادي وجماعته (جماعة أبوللو)، فكان التوجه إلى ترجمة بعض الروائع ومحاولة المحاكاة لها، وكانت هذه الإرهاصات الأولية التي كرستها لاحقا جماعة (شعر) عبر مجلة (شعر) ولا زال هذا المد النقلي مستمراً ويلقى القبول مما فتح الباب إلى التوجه عكسياً من بعض القادرين لإعطاء النموذج الإبداعي العربي إلى الآخر بلغته سواء بواسطة صاحب العمل أو عن طريق مترجم، وهذا مما حاول ربط حلقات المثافقة بتنوعاتها بأخذ الشيء بعد نفضه وغربلته وإعطاء المقابل مايرى أنه قادر على الوصول والتوصيل من أجل التواصل. هنا تكون عملية الترجمة ناصعة لا غبار على إيجابياتها حتى ولو وصمت ب(خيانة) التي هي في حقيقتها اختلاف لغة عن لغة ولو فقدت بعض الجماليات التي تتكون عند صاحب اللغة ذاتها، فالحرص على نقل الفكرة بأمانة وهي غالباً ما تكون، وذلك عندما يتولاها القادرون من المترجمين الذين يدخلون في تجاويف النص ويحاورونه ويعطونه من أنفسهم ويثبتون أنهم تداخلوا معه وأدركوا أبعاده، وهناك بعض النماذج كإشارات يتوجبها الموقف سأمر عليها سريعاً، فكتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد ترجمة د. كمال أبو ديب، وهو كتاب قيم لمفكر عالمي، ولكن قدرة أبو ديب ولغته الخاصة جعلت الكتاب أوبوديبيا- لغةً)عكس ماجاء في ترجمة محمد عناني للكتاب نفسه، فقد جاءت سلسة وناصعة تمكن منها الخاصة والعامة قراءة، فالنقل من وإلى فعل حضاري وقد لمست تجارب أخرى، وهي تجارب تعاملت مع الداخل مثل مشروع (بروتا) للشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي كعمل شامل لمنطقة (الخليج العربي) وماترجمته إلى اللغة الأخرى للشعراء د. غازي القصيبي، ود. إبراهيم العواجي، والشاعر محمد الثبيتي وبعض شعراء المملكة، وهناك دواوين مستقلة قام بترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية مترجمون قادرون من ضمنها لكاتب هذه السطور، وهناك متفرقات لشعراء محليين ترجمت ضمن دراسات أكاديمة نشرت في كتب أو دوريات تعنى بالأدب الآخر، ومايبرز على الساحة العربية بجهود موفقة من متمكنين من نقل الأعمال المتميزة، فما قدمة د. حمزة المزيني مترجماً لنعوم تشومسكي في البدايات وعمل الدكتور سعد البازغي وميجاني الرويلي في نقل كتاب (المصطلح النقدي) تلك الفترة 'ونشاطات د. البازعي الأخيرة، ولا ينسى د. السديس، ود. عبدالعزيز الهلابي، وأبو بكر باقادر وغيرهم. الذي يهم أخيراً أن تكون هناك مواصلة وجدية نحو التوجه إلى النقل لندرة المهتمين القادرين على مثل هذا العمل بالرغم مما ذكرت من إرهاصات أولية، ولكن الممارسة الفعلية أرجو ألا يطول وقت قبل مثولها بشموخ، حيث تظهر بشكل متكامل عند تواجد الثقة عند المتوجه إلى العمل بأنه قد عمل مايتوجب فعله من ناحية الترجمة، اختياراً وعرضاً من ناحية فعالية العمل وحضور الاسم وسلامة النقل وهذه مهمة، وذلك لن يجيء إلا بعد جهود تبدأ فردية ثم تتحول مؤسساتياً، نحن بحاجة إلى التواصل عالمياً فكرياً وإبداعياً. ( يتبع)