لا معنى للقول الشائع بأن المرويّات الخرافيّة هي مجرّد حكايات تسلية، مع أن المظهر العجائبيّ الجذّاب المسلّي سمة من سماتها، فخلف السطح المثير للأحداث والعلاقات تكمن الوظيفة الاعتباريّة للحكاية الخرافيّة. وفي حكاية شهرزاد، وهي الحكاية الإطارية الناظمة لحكايات "ألف ليلة وليلة"، ثمّة رحلة شفاء من عُصاب الخيانة، فالملكان الجبّاران: شهريار وشاه زمان، ينهاران حينما تظهر فجأة أمامهما الحقيقة المرّة، وهي خيانة زوجتيهما، لأنهما كانا مشغولين بالسلطة دون سواها، ولا ترد إشارة إلى عنايتهما بزوجتيهما، فقصورهما قلاع للحريم والعبيد، وهما منصرفان إلى الحكم والمُلك، ولا يظهر ذلك إلا بعد أن تؤدّي شهرزاد مهمتها. غابت عن عالم شهريار وشاه زمان العلاقات الحميمة مع شركاء الحياة المباشرين، فقد كانا مهووسَين بالمجال العامّ، وبشؤون الحكم، وضاق لديهما المجال الخاصّ، بل انعدم، فاختزلا الحياة الزوجيّة إلى علاقات استبداد وإهمال، فانبثق الانتقام الذاتيّ ليس بحثًا عن الإشباع الجسديّ فقط، إنما بحثًا عن درجة من التكافؤ النفسيّ الذي يعيد التوازن للشخصيّة حتى لو كان ذلك بفعل خاطئ، فضروب الانتقام يصعب حصرها، ويستحيل تقصّي روافدها، وضبط مساراتها، فيتهاوى الملكان الهشّان من الداخل، والقويّان من الخارج، في لمح البصر حينما يغزوهما الآخر بفعل يعدّانه غير أخلاقيّ، فالقوة الخارجيّة تخفي هشاشة كامنة في الأعماق، وبدل معالجة ذلك، يهربان إلى مكان ناء يخفيان فيه عجزهما، لكنّ الجارية برُفقة الجنّيّ، تصدمهما بدرس أعمق، فليس القوة هي وسيلة السيطرة على المرأة إنما المشاركة، وحينما يعودان إلى المملكة، يتوارى الأخ الصغير، فيما يخضع شهريار لسلطة السرد التي تمتلكها شهرزاد. صدمت شهريار واقعة الخيانة الزوجيّة، لكنّ فعل الجارية مع الجنّي جعله يمتصّ الصدمة بصدمة أكبر، وفي كلّ ذلك لم يشفَ من مصادراته العامّة، فالنساء بالنسبة له خائنات بإطلاق، ذلك العُصاب الذي شوّش حياته جعله يلجأ إلى سلسلة من الأخطاء المتوالية، ظنًّا منه أنه يشفى من ذلك. لم يكن قادرًا على الامتناع عن الرغبة الجسديّة لكنه يرتعد خوفًا من الخيانة. والحلّ الذي ينتهي إليه شهريار وأمثاله، هو التزوّج بعذراء وقتلها، فالأمن النفسيّ تحدّده العذريّة، وبزوال البكارة يصبح العالم رهينة للخيانة. صار عالم شهريار معتمًا، ومخيفًا، فينبغي عليه افتراع العذارى، وقتلهن، ليحقق ملذاته، ويطهّر العالم من رجس الخيانة الأنثويّ. ظهرت شهرزاد لوقف هذه المجزرة البشعة بحقّ النساء، فيتغير المسار السرديّ للأحداث في الخرافة. منذ بداية الحكاية الإطاريّة إلى وقت الزواج، تتصاعد الأحداث باتجاه تعزيز فكرة الخيانة، وتعميمها على النساء جميعهنّ، ولكنّ منذ الزواج إلى النهاية يتجه مسار الأحداث لمعالجة شهريار من مرضه النفسيّ، وإدراجه إنسانًا سويًّا في مجتمع يحتاج إلى وصف الخيانة بأنها تصرف فرديّ، لا ينبغي أن يوصم به جنس النساء بعامّة. استغرقت رحلة العلاج ثلاث سنوات، وخلالها انتقت شهرزاد الحكايات التي استأصلت، بالتدريج، التهويمات الشكّيّة المرضيّة الجامحة في شخصيّة شهريار. بهذه الطريقة أصبحت شهرزاد مرسِلاً معالِجًا، فيما صار شهريار متلقّيًا معالَجًا، وانتظمت البنية السرديّة لتحقيق هذه الوظيفة؛ فالتراسل السرديّ بينهما حقق الهدف العامّ: شفاء الملك من دائه العُضال. تخلّص شهريار من شكوكه، وبرهنت شهرزاد على إخلاصها، قال شهريار واصفًا زوجته "رأيتها حرّة نقيّة، عفيفة زكيّة". انتهى القاتل إلى التوبة، واعترف بأن الزوجة كانت "سببًا لتوبتي عن قتل بنات الناس". وجدير بالذكر أنّ عمليّات العلاج النفسيّ المتواصلة لمدة ألف ليلة وليلة، شهدت تحوّلات جذريّة، فقد بدأت شهرزاد بحكايات تؤيّد ظنّ شهريار بالنساء، فعزّزت ظنّه بفكرة الخيانة، فأول خطوة في علاج مريض مثل شهريار، هي تعميق الوهم بخطئه، لكي يثق بمعالِجه، ويتخطّى الانزعاج من الفكرة القائلة بأن المعالَج على خطأ، وينبغي إيصاله إلى الصواب بالتدريج، فالعلاجات الفوريّة غالبًا ما تخفق تحت وهم الحماس، والتعجّل، فتنقلب إلى النقيض بالسرعة نفسها التي يدّعي المعالِج تحقيقها. اتصفت شهرزاد إلى جانب الذكاء، بالصبر، والدراية، والفطنة. فقد ملأت حكاياتها الأولى بالنساء الخائنات، المخادعات، اللواتي لا يتردّدن في استخدام السحر، والمسخ، لتحقيق مآربهن، وهن نساء شبقات تكتسحهنّ الرغبة الجسديّة، فيتلهفنَ لإشباع غرائز متّقدة، فلا تحول الروابط الزوجيّة، ولا منظومات القيم العامّة، دون إشباع شهواتهنّ، فهنّ نسخ متعدّدة من زوجتي شهريار وشاه زمان. أرادت شهرزاد أن تأمن شرّ القاتل، وقرّرت أن تمتصّ الحنق المتراكم في نفسه كنافورة من الغضب القاتل. فوضعت قاعدة تنتقل فيها عمليّة التواصل بين الاثنين من الإيمان بفرضيّة خاطئة إلى البرهنة الكاملة على خطئها، وهي قاعدة سليمة للتواصل بين المرسل والمتلقّي، فأفلحتْ في جذب انتباه الملك، ثم تحويله إلى متلقٍّ منبهر بمرويّاتها. بدأت شهرزاد خُطتها بقلب الفرضيّة المنطقيّة لهدف العلاج، فمريضها تعدّى حدود المنطق في أفعاله، إذ شرع في إبادة عذارى المملكة، ويومًا إثر يوم تضاعف في نفسه رُهاب الانتقام، والرغبة في القتل الذي أدمن عليه، وتفاعلت في داخله براكين الشكّ بالنساء كلهنّ. لا تتمّ المعالجة بين طرفين متناحرين بصورة مباشرة، فشهرزاد تخدع شهريار بصواب رؤيته، لكنها، وطوال ثلاث سنوات، تصرّ من غير كلل على بثّ رسالتها السرّية الشافية في ثنايا نفسه المعتمة، وهي رسالة تتألف من مزيج من المتعة، والإثارة، والاعتبار، والمعالجة، فيتغير كاره النساء إلى محبٍّ لهنّ. وينبغي القول بأنه فيما لم تتوقّف شهرزاد عن السرد طوال ثلاث سنوات متعاقبات إلا خلال النهار، لم ينم شهريار طوال تلك المدة؛ فقد كان يدير شؤون مملكته نهارا وينصرف لها ليلا. كان شهريار مشغولا بالحُكم والاستمتاع، فهما الغاية من حياته رجلا وملكا، وبذلك جافاه النوم، فيما كانت شهرزاد مشغولة بالسرد حفاظا على حياتها. ولأن شهريار مأخوذ بالسرد والعمل فلم يلحظ أن شهرزاد حملت منه وانجبت ثلاثة ذكور، والى كل ذلك ففيما كانت شهرزاد تروي حكاياتها الأنثوية طوال ألف ليلة وليلة لتدفع عن نفسها قتلا مصدره رجل فقد نتج عن علاقتها بشهريار ذرية من الذكور. أصبحت شهرزاد سيدة القصر، بعد ألف ليلة وليلة من دخولها عذراءَ تنتظر نحرها بأمر الملك. واسم شهرزاد معناه "العريقة الأصل". فيما يعني اسم شهريار "صاحب المملكة". ولكي تنجح في تحويل غرائز ملك قاتل، عن طريق السرد، إلى انتصار للحبّ، يجب عليها أن تتحلّى بثلاث مزايا، كما توصلت فاطمة المرنيسي إلى ذلك، في كتابها "العابرة المكسورة الجناح" وهي: المعرفة الواسعة، وخلق التشويق قصد شدّ الانتباه، ثم الهدوء للتحكّم في الموقف على الرغم من الخوف. وهذه الخصال، هي على التوالي ذات طبيعة: ثقافيّة، ونفسيّة، وقدرة على التحكّم بسلوكها في لحظات الخطر. وبذلك يتكشّف الدور المهمّ الذي يمكن للخرافة أن تلعبه، في استئصال شأفة أكثر الأمراض فتكًا في التاريخ: الرغبة المحمومة في إبادة جنس النساء.