في رواية "بدر زمانه" للمغربي مبارك ربيع يتجلى مشهدان رئيسان يمثلان المسارين الرئيسين في السرد: مشهد المغربي المعاصر الحاج (مهدي) وعائلته، ومشهد السرد التراثي المتأثر بكتاب "ألف ليلة وليلة" وهو مسار (شهراموش) الذي يبدو قريب الشبه بشهريار، لا في الاسم الذي استعيرت بعض أجزائه فحسب، بل في السلوك والعلاقة بالأنثى. ويبدو ذلك واضحًا من الإشارة إلى حفل الزواج الكبير الذي نظمه عظيم كغاشي "قال الراوي: ثم حدث النبأ العظيم وأعلن في الناس: أن عظيم كغاشي سيتزوج الأميرة (بيروز) بنت السماء، وكان عرسًا عظيمًا لا يرى نظيره حتى في الحلم"، ومن ذلك حدوث التغييرات على شخصية شهراموش بعد زواجه وهو حال مشابه لحال شهريار الملك "قال الراوي: كان الأمر كما خمن الحكيم، فإن جماعة أصحاب المناصب والمصالح وعلى رأسهم همشير وشيهوك، تنبهوا إلى الخطر، وشعروا بالتغيير الذي بدأ يطرأ على شهراموش، ولكنهم في الواقع فوجئوا بعمق ما وصل إليه ذلك"، ويتجلى المسار الأول بوصفه إطارًا مكانيًا للنص (الألف ليلي) التراثي، فعلى الرغم من تداخل المسارين وتناوبهما فهو المدخل الحكائي للرواية، ولكنه لا ينهيها، إذ تنتهي الرواية على أحداث المسار التراثي الثاني. ويبدو هنا جانب من الحرص الكبير من الروائيين العرب على خلق أعمال روائية تحمل ملامح واضحة من التداخل بين مساري الواقع والعجائبي، وموضوعي المعاصر والتراثي. يحقق العمل الروائي "سيدي وحدانه" لرجاء عالم ذلك التداخل عبر استلهام مسارات سردية إطارية مستمدة الجذور من كتاب "الف ليلة" ومع ذلك فهي لا تحمل شخصياتها الرئيسة ولا تحقق سماتها المستهدفة، ولعل ذلك عائد إلى سمة المسارات المتشابكة في هذا العمل الروائي. كما تختار زكية القرشي حكاية إطارية قصيرة لعملها الروائي الموسوم "ألف امرأة... لليلة واحدة" صدر في 2010م ويتمثل بناء هذه الحكاية في دور خارجي شهرياري تقوم به الروائية، بينما تقوم (شموخ) الشخصية الرئيسة في الرواية بدور السارد الداخلي الشهرزادي، فالعمل يبدأ بصوت خارجي يمثل دور الصديقة المنصتة إلى (شموخ) ويتمثل في صمت شهرياري واضح يتجلى معه بدء السرد ويختفي مع نهايته. في بضع صفحات أولية تتحقق حكاية الإطار الشهرزادية المبنية على فتح دائرة السرد، إذ تتصل الصحفية (شموخ) بالصديقة التي بدت كسارد خارجي، وتدور بعض الأحداث الممهدة للسرد في مطلع الرواية، تعد الصديقة قهوة (شموخ) وتوفر لها البيئة اللازمة للحكي الداخلي الذي يصل إلى سبعة وثلاثين فصلًا، للشموع دورها في دفع (شموخ) إلى الشعور بالراحة والتمتع بالهدوء والسكينة اللازمين لبدء الحكي "أشعلت الشموع بعد أن أطفأت المصابيح علها تجد الراحة بين رعشة شموع الأمل على الجدار القاتمة، ونور أضاء الشارع من خلف النافذة..."، ويقتضي السرد أن يكون فضحًا لسر يحظى به المسرود له/ المروي له، وإلا أضحى أمرًا معروفًا مشاعًا للجميع، ومن الأصح أن نقول: إن السرد سرٌّ يُروى لأول مرة للمسرود له/المروي له ". تفضح (شموخ) أسرارها لصديقتها كما كشفت شهرزاد لشهريار عن حكاياتها التي يعرفها لأول مرة، وهو ما تؤكده حكاية الإطار في رواية القرشي، إذ تؤكد (شموخ) لصديقتها إصرارها الدائم على حفظ أسرارها الذاتية، فهي لا تهديها لأحد "أنت تعلمين أنني حريصة على حفظ أسراري، لم أتحدث يوما عما اختزنته من ألم وعذاب، وما أعيشه من حياة بائسة"، وتصر (شموخ) على أن تذكر سبب فضح السر الدفين في صدرها، ورغبتها في أن يشاركها أحد همها الدفين، فالسرد لا بد أن يعتمد على سبب يدفع إلى سرده وتلقيه، وإلا أصبح بلا معنى "لكنني أكاد أنفجر كبركان خلق منذ مئات السنين، ولا أعلم مع من أتحدث ومع من أبدأ... ابدئي من حيث شئت"، هنا تحضر بداية حكي شهرزادي/ شموخي، تتطابق مع حكاية إطار الليالي وتفترق عنها، تتطابق في كون كلتا الحكايتين موقعتان باسم أنثى، ومؤطرتان بسبب مرجعي يدفع إلى السرد، وتنطلق الحكايتان من بيئتين مهيئتين تشجعان الساردين، أما المسرود له في كليهما فلا بد أن يتحلى بالسّلبية، وأخيرًا فإن الانتقام الذي تسعى إليه (شموخ) لا يتوفر في ما روته شهريار ولم تفصله الرواية لكنها تشير إلى ذلك مرات أشهرها ما ورد في خاتمة العمل "سأكون ألف امرأة بألف لسان... وألف قلب وألف عقل، ولو لليلة واحدة! أصل بها إلى مبتغاي". كان انتقام شهرزاد تهذيبًا لسلوك وحشي مارسه شهريار، ونلاحظ هنا أن السرد الألفي في كتاب "ألف ليلة وليلة" يتحول إلى مفردات ألفية تتصل بالذات؛ باللسان والقلب والعقل، وهنا يتجلى الخطاب الجمعي في ليالي شهرزاد مفترقًا عن ذاتية مفرطة، وهذا أحد أبرز ملامح الاختلاف السطحي بين الإطارين، ولكنه في عمقه تشابه، ركزت رواية القرشي على الذات وعلاقتها بالآخرين، ولو أن ذلك جاء ليعبر عن رمزية في حمل قضايا الخاص على العام، وجهدت شهرزاد لحل مشكلات بنات جنسها، يتجسد في محاولتها حل إشكال ذاتي يتصل بالحوف من القتل، ولكن اختفت الذاتية ولم تظهر شهرزاد في الحكي الداخلي إلا بصورة رمزية في آخر الحكاية الإطارية كما في نسخة (برسلاو)، إذ تعيد شهرزاد حكي حكايتها مع شهريار وسردها الحكايات له. كان من بين الممارسات التجريبية في الرواية العربية اعتمادها على مزج الخطابين العجائبي والأسطوري مع الواقعي، ولعل هذا يستعيد لنا ما أشار إليه (تزفيتان تودوروف Tzvetan Todorov) الذي ألف كتابه الشهير حول الأدب العجائبي، وعرف العجائبي ووضع قوانين عوالمه ويصفه بكونه أحداثًا تبدو فوق طبيعية، ويؤكد تودوروف مسألة التردد الذي يعانيه من لا يعرف سوى التفسير الطبيعي أمام صيغة فوق طبيعية، ومن الجلي التأكيد على عجائبية حكايات ألف ليلة وليلة، وتناول تودوروف لذلك في كتابه الشهير، إذ تبدو من جانب اعتمادها على "بنية عجائبية من خلال تعرضها لعالم فوق طبيعي داخل عالم مألوف، ومن خلال شخوص يتعرضون للتحول والتبدل وفي أحيان أخرى للمسخ، فنص "ألف ليلة وليلة" نص قائم على خرق الواقعي لعالم تختلط فيه مخلوقات مختلفة: الجن والإنس، المألوف والخارق، الشيء الذي يولد حيرة وترددًا عند المتلقي". تجلى البعد الجمالي لكتاب "ألف ليلة وليلة" بوصفه البعد الرئيس الذي أدى بصورة واضحة إلى أن يستشعر الروائيون العرب جماليات القص (الألف ليلي) ومن ثم استلهام الكتاب وتوظيفه، إلا أن هناك جوانب خفية تؤكد ذلك الحرص وتكشف أسرار توظيف حكايات الكتاب، ومن ذلك يمكن أن نشير إلى أزمة الذات العربية التي حاولت أن تحقق حضورها المستقل والفاعل في الحضارة العالمية، ويتصل هذا بالموقف الذي بناه بعض المثقفين من تأكيد علاقة الرفض للثقافات الاستعمارية التي خلقت مآسي في البلاد العربية، فالكتابة بالعودة إلى "ألف ليلة وليلة" جزء مهم من تجسيد الذات وتأكيد عربيتها وهويتها القومية، ولا ينفي ذلك تنوع المواقف واختلافها بين أولئك الروائيين الذين ينتمون إلى دول مختلفة واتجاهات أكثر اختلافًا، لكن أغلب هؤلاء لا يخرجون عن رؤية تتفق على مبدأ مناهضة الاستعمار، والإيمان بالقومية العربية، وهم مع ذلك يتوقون إلى المشاركة في البناء الثقافي العالمي. ومن ثم كانت محاولات بعضهم إنتاج جنس روائي عربي توافقي مع الثقافة العربية، له سماته وخصائصه، ومن سمات هذا النوع من الكتابة أنه لا يمكن عده محاكاة للنموذج الغربي في الرواية، وقد تم بناء ذلك انطلاقًا من عالمية كتاب "ألف ليلة وليلة"، وملاءمته للثقافات العالمية، فعدوه نصًا كونيًا يصل بين الثقافات، وبالدخول إلى دائرة ضمن هذه الدوائر الكبرى تتضمن مواقف الروائيين العرب من كتاب "ألف ليلة وليلة" فحسب، سنجد أن لمعظم الروائيين العرب مواقف إيجابية تجاه الكتاب وأدركوا أهمية الكتاب بوصفهم أكثر الفئات اتصالًا به، وذلك عائد إلى أسباب عدة منها: كونهم ينتمون كتابيًا إلى الحقل نفسه، وهو السرد الذي اتفقوا على ضرورة تفعيله في الثقافة العربية المرتهنة إلى الشعر، إلى جانب معرفة هؤلاء تأثير الكتاب في الثقافات وتوظيفه غير المحدود في الفنون العالمية، وأخيرًا من اللازم أن نؤكد على أمر وظيفي يتصل باتخاذ حكايات الكتاب وثيماته وشخصياته قناعًا يمرر فيه الروائيون العرب ما يريدون قوله، محققين بذلك اجتياز الرقيب والسلطة، كان ذلك أحد الدوافع التي شجعتهم على استثمار نصوص الكتاب، ومكن لهم أن يبرزوا ما يودون قوله إلى المتلقي، إنها مواربة سردية تتوافق مع مواربة شهرزاد ما تود قوله بالحكي الذي استمر لألف ليلة وليلة، لقد استطاعوا بذلك أن يضيفوا بعدًا مهمًا في تجربة التأثر بكتاب "ألف ليلة وليلة" ليكونوا بذلك حقًا أحفادًا فاعلين ومؤثرين لشهرزاد، ومنتجين لنصوص روائية تتصل بنسب قوي إلى كتاب "ألف ليلة وليلة".