كلنا محتاج إلى تنظيف قلبه، ورأسه من الأفكار السيئة، والمزعجة.. قلت ذلك لنفسي في هجعة الليل، وأنفاس الطبيعة تتناغم مع بعضها في تمازج أزلي الوجود. كنت قد فتحت ستارة الغرفة المطلة على بحيرة ((أبانت)) بتركيا كانت الريح هادئة، والنسيم كسولا.. والكون قد استسلم في دعة كطفل هدهده النوم في مهده.. وكان القمر مشعاً يلقي بضوئه الحاني البهيج على المكان، فتبدو الأشجار هاجعة، خاشعة.. وتشع البحيرة كلؤلؤة خلع عنها الليل رداءه، فراح بريقها يشرق في كل شيء، حتى يتوغل إلى النفس فيشعل بداخلها تلك الشمعة الذهبية، التي تظل تضيء تحت جوانح الجسد حتى يخيل للمرء أن جسده صار يضيء ما حوله..!! وأنها تشرق في داخله كقنديل يتوهج في ليلة شتائية باردة. في تلك الليلة طارت كل الأغربة السوداء من رأسي، وطارت كل أسراب الجراد الشرسة التي كانت تأكل أوراق القلب، والروح.. وظللت أسامر الليل.. أسامر البحيرة، والقمر، وأناجي السكون.. وأثناء هذا الصمت الساجي ترامى إلى سمعي صوت.. كان صوتا عذبا بدا خافتا ثم صار يصدح، ويتعالى وظللت أصغي إليه، صوت طائر يغني في هذا الهزيع الأخير من الليل.. يغني ما بين حين، وحين.. كأنه بلبل أو شيء يشبه البلبل.. كان يصدح بصوت عذب له رونق تلك الطبيعة وجمالها.. يغني ثم يصمت، وربما أطال الصمت، حتى إذا يئست من عودته فاجأني مرة أخرى! وكأنه عابد متبتل أواه، متأمل للطبيعة، كلما أمعن النظر فيها وفي جمالها وأطال، نهض فرتّل لحنا من الحان الشكر لخالق الوجود. ولست أدري أطال بي الليل أم قصر.. كل الذي أعرفه أنني صرت منسجماً في جسد الطبيعة وروحها.. صرت نغمة في معزوفة البهاء الحالمة التي ترفّ نغماً في ملكوت الله.. وظللت واقفاً أصغي، ولا أصغي.. أحلم ولا أحلم.. لا أفكر في شيء مع حالة الاندماج، والانجذاب البصري والوجداني لما اسمع وأرى. وعلى غفلة مني انبثق صوت سماوي، ملأ الكون جلالاً، وخشوعاً، صوت ارتعشت له الطبيعة كلها، وتوحدت وأصغت في تبتّل وخشوع، وكان الصوت:الله أكبر.. الله أكبر.. إنه أذان الفجر! لم يكن صوتاً واحداً، وإنما أصوات صدحت في روح وروع الطبيعة، فأخذت تهلل، وتكبر.. شعرت حينها أن الكون كله قد استفاق، واستيقظ ونهض لأداء الصلاة.