سألني الناس: «لماذا تسمّين دار الأوبرا المصرية: «دولة الأوبرا؟ فأجبتهم: لأنها دولة مستقلة بحدّها الخاص. لها شعب خاص، ونهج عيش خاص، وقانون خاص. قانونها: الجمال والأناقة والتحضّر والنظافة واحترام الإنسان. ونهجها: الفنون الراقية التي تحارب التلوث السمعي والبصري الذي يضرب خاصرة الشعب المصري. وشعبها: اختار أن يلفظ القبح ويتعلّق بأهداب الجمال الهاربة من واقعنا منذ ستينات القرن العشرين. نهرب إلى دولة الأوبرا من دولة الواقع المصري الراهن الذي تملأه الركاكة والقمامة والسلوك السيّء والفنون الهابطة. جمهور الأوبرا لن تراه في شوارع مصر، لأنه متشرنق في بيته، يخاف الخروج إلا إلى دولته الخاصة: دولة الأوبرا. في تقديري الشخصي، أن تلك الدولة التي تسكن بناية صغيرة أنيقة في شارع الجبالية في الزمالك، هي التي أنقذت دولة مصر الهائلة من غزو الإخوان الإرهابيين الظلاميين. لهذا، حين هاجم وزير الثقافة الإخواني علاء عبد العزيز دولة الأوبرا، قلت له بالحرف على الفضائيات وفي مقالاتي: «أهلا بك في عشّ الدبابير، أهلا بك في حقل الألغام. أبشرْ، أوشك نظامكم على السقوط». لأن المثقفين (شعب دولة الأوبرا) قد يصمتون طويلاً مكتفين بدولتهم الصغيرة التي يحتمون فيها من قبح الواقع، لكن إن مسّ ملاذهم الوحيد، دولتهم، ضرّ، خرجوا كالنسور الجوارح الجريحة، يذودون عن عشّهم، ويدحرون اللصوص ويطردون قنّاصة الأعشاش الآمنة الهادئة. وهو ما كان. صمد المثقفون في اعتصامهم أمام وزارة الثقافة المصرية، يغنون ويرقصون ويلقون القصائد ويعزفون الموسيقى ويعبّئون الناس، من شعب مصر، ليشعلوا ثورة النور والحرية في 30 يوينو، حتى اندمجت الثورتان، ثورة شعب مصر المحترم الغاضب المنكوب، مع ثورة شعب الأوبرا الذي كان مستكيناً صامتاً يرقب الموقف بعين السخط، وقد غار الشعبان كلاهما على هوية مصر المهددة، فطردوا الظلام وشرّعوا الأبواب للنور والتحضر. لهذا كان طبيعياً أن يأتي تكريم بلبل لبنان المغرّد وديع الصافي في «دولة الأوبرا». وكيف لا، ونصف هذا البلبل مصري، جوار نصفه اللبناني، عدا أنصاف أخرى، إن كان ثمة أنصافٌ أخرى، فرنسية وبرازيلية. من مثله غنّى لمصر فانتشى كلّ محبيها؟! من مثله رنّم لمصر بصوت يجمع بين جبلية لبنان الجهور، وبين عذوبة ورهافة صوت الغزل الشفيف؟ من مثله صدح: «إذا مصر قالت: نعم، أيّدوها/ وإن أعلنت لاءها، فاسمعوها»، فأيدنا المحبّون، وسمع لاءاتنا الثورية الجميع. عشقه المصريون وعدّوه أحد أبنائها، وهو ابن بارّ لمصر الطيبة التي تعرف كيف تحتضن أحباءها، مثلما تحنو على من أخفق في حبّها. كانت أمسيةً دافئةً، نظمتها شعلة مصر التنويرية، عازفة الفلوت العالمية، ومديرة دار الأوبرا المصرية إيناس عبد الدايم، التي استردت زمام دولة الأوبرا من لصوص الظلام. حضر أنطوان وديع، نجل الطائر المسافر إلى السماء، وهو طائر غرّيد أيضًا، فاختتم الحفلة بأغنيات شجية من تراث أبيه الثري الخالد. وسلّمه درع تكريم الوالد، وزير الثقافة المصري صابر عرب، مع إيناس التي أصرّت على حضور وديع الصافي بنفسه يوم تكريمه بوضع صورة عملاقة له مبتسمًا يملأ وجهه البشر، في خلفية منصّة المسرح عطفًا على صور جانبيه على شاشات العرض الضخمة. وبدأت الحفلة بفيلم وثائقي عن الصافي، استعرناه من «تلفزيون لبنان»، يعرض مقتطفات من حياته العريضة شابًّا وكهلاً وممثلاً في أفلام محفورة في ذاكرة العرب. «لقاء السحاب» وكما نسمي في مصر لقاء أم كلثوم مع الموسيقار عبد الوهاب للمرة الأولى «لقاء السحاب»، وكان هذا في أغنية «أنت عمري» التي أبصرت النور في الستينات بتكليف مباشر من رئيس مثقف يهوى الفن ويحترمه هو جمال عبد الناصر. كانت الأمسية أيضًا نوعًا من لقاء السحاب، حيث اجتمع تراث وديع الصافي بعصا مايسترو فريد قلّما يتكرر هو اللبناني المصري، أيضًا، سليم سحاب الذي يعرف كيف يلتقط النغم بعصاه من أوتار الآلات الموسيقية ليصهره بالنغم الطالع من حناجر المطربين، صانعًا شدو الجمال النقي. «على رمش عيونها»، «بالساحة تلاقينا»، «عيونك أخدوني»، «لبنان يا قطعة سما» «راح حلّفك بالغصن»، وغيرها، سمعناها من حناجر: سعيد عثمان وأشرف وليد وهشام الحاج. وحين اجتمعت حنجرتان استثنائيتان: رحاب مطاوع وأحمد عفّت، في أغنية «شمس الشموس يا صبوحة»، أدرك الحضور أن الفنّ لا يموت لأن مواهب جديدةً تزهر يومياً في ربوع العالم العربي، تعوّض ما نفقده من طيور مهاجرة إلى السماء. وحين «يسلطن» غسان الشدراوي مرنّماً: «الليل يا ليلى يعاتبني/ ويقول لي: سلِّمْ على ليلى/ الحبّ لا تحلو نسائمه/ إلا إذا غنّى الهوى ليلى»؛ تمنّت كلّ البنات أن يحملن اسم «ليلى»، حتى وإن غاب «قيسٌ» فلا يكتب الشِّعر إلاّ في عيونهن وجدائلهن. واختتمت الحفلة أغنية «عظيمة يا مصر»، بصوت جميع المطربين، فانفعلنا جميعًا وغنيناها مع المطربين، فلم نسمع صوتًا نشازًا واحدًا، كأننا جميعًا مطربون. لم يكن تأبينًا، بل كان تكريماً. لأن الفنان الحقيقي لا يموت. فحين خمد الجسد العليل، دقّتْ طبولٌ، شقشقتْ عصافير، طارتْ فراشاتٌ، وانطلقتْ سهامٌ كيوبيدية من قلوب العشاق تسأل: هل رحل اليوم عن دياركم بلبل صدّاح؟ ما أفدح خسارتكم أيها الساكنون أرض الفقد! إنّا حملنا الجسد الواهن إلى حيث عالم أجمل من عالمكم! فاحزنوا ما طاب لكم الحزن، واصنعوا بلابل جديدة تواسيكم! بلبل دياركم الراحل عنكم، تمنّى علينا أن ينهار الجسد فوق مسرحكم الأرضي، وهو يغنّي، مثل فارس يطلب الشهادة في ساحة الوغى، أو باليرينا بولشوي ترفض أن ينام الجسد الراقص نومته الأخيرة إلا بعد أن يخفت صدى آخر نغمة في «بحيرة البجع» أو «كسّارة البندق» أو «جيزيل». لكننا رأينا أن نحمل الجسد ليحيا، لا ليموت، فوق خشبة مسرح لا يعرف جمهوره سوى الحب. تركناه لكم اثنتين وتسعين سنة، وحان الوقت لنسترده ونسعد به في عليائنا، مثلما ابتهجتم به في دنياكم. اطمئنوا أيها الأرضيون على وديعتكم التي نحملها فوق أجنحتنا صوب السماء. فعندنا في الفردوس، ننتخب الأرواح الجميلة، لتسكن ديارنا الأبدية، وننتخب الأصوات العذبة، لتطوّف على شواطئ أنهارنا الكوثر، حاملةً قيثاراتِها الفرعونية وحناجرها الذهب، فتبهج المؤمنين. فقيدكم هو منحتنا منذ اللحظة. فإن مسّكم شوقٌ إليه، مدّوا أعناقكم نحو السماء، وأصيخوا السمع، وأنصتوا إليه يشدو في رحاب الصالحين. لم يمت بل هرب إلى حيث تفرّ العصافير إلى عالم أنقى، فلا تعود أبدًا إلى عالمنا الذي يسكنه الشقاق والتناحر والظّلم. أسمع الآن ديار لبنان، ودورها وربوعها وضِياعها وجبالها، وأسمع الأكواخ الصغيرة على ضفاف النيل، تسألنا: «راحوا فين حبايب الدار؟»، فلا نعرف أن نجيب.