ماجدة الرومي عندما كتب كلود دوبوسي الموسيقي الفرنسي موسيقى «ضوء القمر» أظنه كان يتقصد رسم طريق لعاشق عائد مع خيبته، وعندما برق صوتها في ذلك المساء كانت تتقصد إزاحة العتمة. هذا مجرد توليف تم في مخيلتي ليس أكثر عندما تردد صوتها في بالي وأنا أشعل شمعة على حبر عتيق لأقرأ في ليل المدينة ما هو خفي. أظن إن الموسيقى تسعفنا على عدم السقوط في العتمة. *** أطلت كأول الفجر، تحمل كلمات ليس أكثر، في عينيها ليل من حزن وعتب، ليس من فعل هجر أو خصام، بل من سلوك عالم قبل صورته شاهد زور على جريمة صارت أكبر من القتل، صارت شيئاً لا يحتمله قلب أو عقل ...أطلت من ليل، حنى الألم قليلاً قامتها، أومأت بيدها لنجمة في القبة السماوية لتسعفها على الاحتمال، فسقط بريقها في الماء، صارت يدها طائر حمام بحجم الروح حين يعتصرها الشوق، حام وحط على القلب مسكن الحب الأبدي. اتكأت على صوتها وغنت. شعرتُ كأني أحد غيري قال: إن في برديّ جسماً ناحلاً / لو توكأت عليه لأنهدم. غنت وبدت لي مثل قصيدة قال فيها محمود درويش «خضراء قبل العشب وزرقاء قبل الفجر». هكذا رأيتها في تلك الأمسية. هناك في البحرين، كأن بعضها يعلم أن الكثير منها شفيف، لذلك حين هب الغناء طار القلب. وحرك الهواء ثريات كريستال في سقف العتمة فصار الطنين فجراً كاملاً. أطلت من الليل تحمل كلمات وتعلم أن هذا حمل ثقيل، قالت سأغني للضوء ليس اكثر، سأغني للحب ليس اكثر، وهذا أيضاً حمل كبير. *** أجفل الصوت الحرس حين سقط في صفحة عتمتهم، اصطفوا على السطر ولعنوا الضوء، فكشفتهم كلماتهم في المواقع المتقدمة حراساً بلا وجوه بلا ملامح على أبواب أسياد الظلام، تململوا وألفوا حبراً مسموماً تفشى في الصفحات، علماً أن ابن الرومي وصف الحبر بلعاب الليل، كم هو جميل، كم مضيء هذا الوصف، وكم معتم حبرهم لإنه ليس من الليل، ليل الرومي، بل من الظلام الكلي. الكلمات لا تخاف من الحرس. والكلمات حين تخرج من الحنجرة مدفوعة بالشوق تصبح الضوء، من يستطيع حجب الضوء؟ لست هنا لأكتب عن الصوت برغم علمي أن مطرحاً في مساحته يصيبني هو تماماً في الطرب حين يدور على مقام الرست أو ما قاربه من طنين. لست هنا لأصف صوتها في طبقاته وجواباته، أو لأتدرج معها إلى المصدر، بل لأجاور الكلمات، لأجاور الصوت كما بعض الحجيج الذي يجاور المقامات. الجريمة لم يبن لهم صوت على قتل الأطفال بالغاز، هؤلاء الذين سال حبرهم حين أعلنت ماجدة الرومي انحيازها للضوء، وأنها ضد القاتل إن قتل باسم الدين أو باسم الشعب. تواروا في الظلام كأنهم لم يشاهدوا الفجر وهو يضيء بيوت الأطفال الذين لم يكملوا منامتهم حين تسرب غاز السارين إلى هواء حجراتهم الخائفة في غوطة الشام. كأن هذه الأجساد الطرية الغافية إلى الأبد هي دمى تشبه الأطفال، لم تحرك مشاعرهم أو أقلامهم، وحبرهم. لم يبن منهم ظل كلمة، تواروا كالقاتل في العتمة، اختفوا عن الصفحات، وتركوا عليها أثار عبورهم المظلم على شاكلة العار... أما العالم الذي يسمى المجتمع الدولي، هذا الفاقد للأخلاق أمام جريمة العصر، فحبذا لو يصاب بالخرس، لكان وفر على أعصابنا لغواً وكلاماً لا معنى لهما. كلام مصاب بالمحو المسبق، يثير السخرية والضحك. عالم هو أيضاً متوار في العتمة كالقاتل، في الحقيقة هو قاتل مواز في تفرجه على مذبحة ستختم عامها الثالث، ولا أدري إذا كان يعلم انه أسس لحقد عميق في النفوس نتيجة لهذا التعاطي الذي يستخف بدماء الناس وآلامهم، حقد لا يقل عن الذي يزرعه قاتل الأطفال، ومثله كمثل المجرم الذي يأخذ صوراً تذكارية مع ضحيته. هكذا هي صورة العالم، في نهاية كل يوم يأخذ صورة تذكارية فوق الأشلاء والحطام. لا أدري إذا كان ستة آلاف قتيل ومصاب في فجر واحد في دمشق هو دون المنسوب الذي يبنى عليه موقف ما من هذا العالم الهالع، من عزل مرسي ومن خريطة طريق مصر، كأنه هو المرشد الأكبر للإخوان وليس محمد بديع، معادلة اجتمعت فيها أضّداد لا تلتقي، خمسة ملايين مشرد ومئة ألف قتيل ومئات ألاف المفقودين... أرقام لم تثر مخاوف الغرب على مصير سورية، أما وضع مصر التي اختطفها الإسلام الإخواني وأعادها أهلها الذين خرجوا بعشرات الملايين، لتعود مصر إلى مصر، فأثارت هلع إيران وتركيا وأميركا وأوروبا شيء عجيب. سبحان من يجمع القلوب! *** أنا عندي من الأسى جبل يتمشى معي ويتنقل أنا عندي وإن خبا أمل جذوة في القلب تشتعل ثانية أقول لماجدة، غني فهذا الجرح لا يبرأ إلا بالغناء وهذه العتمة لا يضيئها إلا صوتك. أقول مستعيراً من الجواهري بعضاً من الأسى وبعضاً من الأمل. أما هؤلاء الذين سال حبر عتماتهم، هؤلاء المتوارون خلف صفحاتهم السود، فيريدونك أيقونة بلا لون، يريدونك وجهاً بلا ملامح وصوتاً بلا حنين ولا معنى. ترى، هل ما هو اجمل من تحطيم الأطر حين تتحول إلى سجن للكلمات؟. * روائي وإعلامي لبناني