سيمتعض كثير من القراء (إذا افترضنا سلفاً أن هناك قراء لهذه الزاوية من باب التفاؤل).. قلت: إن القراء سيمتعضون، وذلك لأنني في لقاء هذا الأسبو ع من هذه الزاوية أشبه إلى حد مفزع ذلك الكاتب الذي أقفر من كل الموضوعات وأمحل من كل القضايا فعمد إلى الحديث عن إقفاره وإمحاله وعن زاويته وعن معاناته مع مطبوعته، غير أني أتمنى صادقا أن يجد المتلقي ولو فارقاً واحداً يمنحني القبول والرضا، ويبعدني ْمن شبهة إضاعة الوقت والمساحة في ما لا طائل من ورائه.. إذاً سوف أبسط الآن امتعاضي أنا أمام امتعاض قرائي بهذا الشكل: عندما تدرس اللغة مدة عشر سنوات قراءة وكتابة وتأليفاً وحفظاً وتحليلاً ومقارنة واستنباطاً واختياراً وترجيحاً، ثم تعمل بعد ذلك خلف (لاقط الصوت) في الإذاعة والتلفاز، وتثري ما تلقيته ودرسته بالتجربة والممارسة والإضافات، وتلهث خلف الصحيح والأصيل والراجح وتشرعن (الصواب المهجور) هارباً بكل عنفوانك المعرفي من الوهم والمزيف والعامي والمرجوح و(الخطأ المشهور) حافظاً عن ظهر قلب كتب الأخطاء الشائعة ومصنفاتها، ثم تفاجأ بالمصحح اللغوي يسطو على كلمة من الكلمات أو على جملة من الجمل ويستبدل بها كلمة أو جملة غير صحيحة فإذا بك أمام المتلقين شاحباً تعاني من فقر دم لغوي ومعرفي وثقافي.. عندها أين تذهب بغيظك وامتعاضك وقد ظهرت أمام محبيك والعارفين بك بهذا الشكل ؟ وذلك ما قام به مصحح المقالات في زاوية الجمعة الماضية، حيث أزال كلمة (فجاءة ) واستبدل بها كلمة (فجأة) التي لم ترد في كلام العرب الذي يستشهد به ولا في القواميس التي تعنى بمصطلحات اللغة ومدلولاتها. ولكي يطمئن المتلقي والمصحح إلى هذا الامتعاض العلمي سأسجل في ما يلي هذه الشواهد: --- ورد في الحديث الصحيح أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم استعاذ من موت الفجاءة --- ورد أيضا في الحديث الدعاء المعروف (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك ) --- وكلنا يحفظ البيت المشهور للشاعر العاشق (عروة بن حزام): ( وما هو إلا أن أراها فجاءة* فأ بهت حتى ما أكاد أجيب ) --- ولا يمكن أن ننسى اسم الشاعر الفارس، (قطري بن الفجاءة ). وما سبق يذكرني كذلك بواقعة مشابهة قبل سنوات، إذ كتبت مقالا في إحدى المجلات وردت فيه هذه العبا رة ( ولا يمكن بأي صورة ولا بأي احتمال أن يتراجع الفكر الحي إلى تجارب التردي والانقراض) ، فغير المصحح الجملة إلى (أية صورة) لأنها في تقديره أضيفت إلى مؤنث، وعند الاتصال والمناقشة أصر على رأيه في مكابرة لا تخفى، عندها قلت له: ما رأيك في قوله تعالى (في أي صورة ما شاء ركبك) فبهت وصمت، وعلى مشارف صمته قلت له: لاتثريب عليك، وأنا أقول لزميلي هنا: لاتثريب عليك فما من شك في أنك مجتهد وحريص على ما أوكل إليك. وفي هذا السياق، أود أضيف أن هناك كلمة تشابه كلمة (فجأة ) في شيوعها وكثرة استخدامها وفي عاميتها وعدم صحتها، وهي كلمة (صدفة)، والصحيح (مصادفة). أرجو ألا نجد أنفسنا في أي زمان ومكان في قبضة المفاجآت المرعبة ولا في أقدار المصادفات المتعبة.