شعر الجواهري أكثر جزالة من شعر نزار قباني ومع ذلك سار شعر نزار على كل لسان وتغنى به المطربون وصار شعبياً إلى حد كبير، بمعنى ان له شعبية وان حتى المراهقين والمراهقات يحبون شعر نزار ويرددونه وربما يحفظونه، أما شعر الجواهري فرغم جزالته الباذخة وبلاغته الواضحة لا يكاد يقرؤه أحد من عامة الشعب ومن يعرفون اسم نزار أضعاف أضعاف من يعرفون اسم الجواهري ودواوين نزار بيعت بالملايين بينما ظلت مبيعات دواوين الجواهري محدودة جداً نسبة لدواوين نزار. ولا نقول إن شعر الجواهري أكثر من شعر نزار جزالة فقط، بل نكاد نقول إن معظم شعر نزار يخلو من الجزالة أصلاً، ويعتمد على السهولة والعذوبة وجمال اللفظ وحلاوة الجرس (ودغدغة) المشاعر السطحية ولا نعيب شعر نزار بهذا الحكم - إن صح - فإن شعره من (السهل الممتنع) ولديه موهبة شعرية رائعة وحس فطري يجعله يقترب من الناس ويطرب السامعين لهذا غنى له كثير من المطربين والمطربات على رأسهم أم كلثوم ونجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ وكاظم الساهر وفايزة أحمد وغيرهم كثير، لأن شعره مطرب وقريب إلى القلب وسهل المعنى وجميل المبنى وخلوه من الجزالة صار له ميزة في هذا المجال فهو يخلو من الألفاظ الغريبة والتراكيب الفخمة والمعاني العميقة وهذا ما يريده عامة الناس من الشعر: حلاوة السبك، وطرب الجرس، وجمال اللفظ، وسهولة المعنى، ووضوح التعبير عن العواطف. وفي الشعر الشعبي لا يختلف الأمر كثيراً فالشعر الذي يسير مع الناس هو الشعر السهل الذي يمثل حياتهم ويعيش معهم وبينهم ويذكرونه كما يذكرون الأمثال السائرة كلما مروا بموقف مماثل لذلك الشعر. لهذا نجد أن الشاعر الواحد الذي يوجد في شعره الجزل والسهل تنطبق عليه تلك القاعدة فالسهل الممتنع من شعره هو الذي يسير مع الناس ويصير كالأمثال ويجري على كل لسان وتردده الأجيال. على سبيل المثال فإن الشاعر الفارس (راكان بن حثلين) له أشعار شعبية جزلة بليغة ومع ذلك فإنها لم تسر مع الناس كما سار قوله: ومن عقب ذا يا ما حلا شرب فنجال في مجلس مافيه نفس ثقيله هذا ولد عم وهذا ولد خال وهذا صديق ما بغينا بديله أو قوله: يا سابقي ما من صديق جمعين والثالث بحر والله لابوج له الطريق لعيون براق النحر فقد سارت أكثر من أشعاره الجزلة الكثيرة مثل قوله: اخيل يا حمزه سنا فوضى بارق يغري من الظلما حناديس سودها على ديرتي رفرف لها مرهش النشا وتقفاه من دهم السحايب حشودها فيا حظ من ذعذع على خشمه الهوى وتنشى من اوراق الخزامى فنودها وتيمم الصمان إلى نشف الثرى من الطف والاّ حادرٍ من نفودها حريبنا نسقبه كاس من الصدى الحبة الزرقا لكبده برودها وان ثقل اللي في اللقا يروي القنا اللي لونيات السبايا سنودها بمذلقات الهند والشلف كنها السن سلاقي متعبتها طرودها وخشوم طويق فوقنا كن وصفها صقيل السيوف اللي تجدد جرودها وفي تاريخ الشعر العربي حادثة مشهورة فيها دلالة واضحة على ان الشعر السهل يسير مع الناس أكثر من الشعر الجزل حتى وإن كان المعنى واحداً وكان الشعر الجزل أصلب وأمتن ولكن الناس يفضلون الأسهل والأجمل والأقرب للحفظ والأسرع دلالة على المعنى فقد كان الشاعر (سلم الخاسر) تلميذاً للشاعر (بشار بن برد) وكان الأخير جزل الشعر غزير الصور قوي الخيال رغم أنه ضرير.. وحين قال بشار بن برد: من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج طرب طرباً شديداً وأخذ يصفق بيديه ويقول لراويته: سوف يسير بيتي هذا على كل لسان! ولكن إن هي الا أيام فدخل عليه راويته وقال له: يا بشار ان تلميذك سلم الخاسر سرق بيتك الذي اعجبك وسبكه باختصار فقال: من راقب الناس مات هماً وفاز باللذة الجسور فلما سمع بشار هذا البيت جن جنونه ولطم وجهه وصرخ: لقد ضاع والله بيتي! وهذا ما حصل! بيت سلم الخاسر سار على كل لسان، وبيت بشار بلعه النسيان. الجواهري قباني