مفْهُوم " الثقافة التنظيمية " لدى منشأة أو منظمة ما، كما جاء في أدب هذه الثقافة يتمحور حول القِيم والافتراضات والاعتقادات المشتركة والمتعارف عليها بين أعضاء المنظمة أو المنشأة التي تحدد كيفية تفكيرهم وأساليب عملهم بما يخص: سياسات الإدارة العليا، كيفية اتخاذ القرارات، طرق انسياب المعلومات، البيئة المادية، أخلاقيات العمل، أساليب الأداء، والتخاطب بين الموظفين. إضافة إلى استخدام وسائل التقنية، الاهتمام بالوقت، نظام الترقيات والمكافآت، العلاقة مع المستفيدين من خدمات المنظمة أو المنشأة، العلاقة مع المنظمات أو المنشآت الأخرى... الخ. وتبدو أبرز وظائف الثقافة التنظيمية كما جاء في دراساتها المُنجزة في منح الموظفين هوية خاصَّة، وتشجيع الالتزام الجماعي والاستقرار الاجتماعي ودعمه، ومساعدة الموظفين على فهم متطلبات المنظمة أو المنشأة. ولكن نجاح تطبيقاتها مرهون في الغالب بتوفر قيادات إدارية مؤهلة تتبناها، وتُهيئ كل الوسائل والفرص الممكنة للتأثير الإيجابي على بيئات العمل وآلياتها. دعنا عزيزي القارئ نُسقط هذا الكلام والتنظير الجميل لمفاهيم الثقافة التنظيمية، على واقع بعض منشآت القطاع العام في المملكة (القطاع الحكومي). يقيناً لن تكون مآلات هذا الإسقاط إيجابية، بلْه يمكن وصفها بالبائسة والمحبطة، وتشي بفجوة واسعة، بين الواقع والمأمول، والراهن والمُفترض، والمُتحقق والمُستهدف. وتداعيات كل ذلك على إدارة المهام، والموارد، والخدمات والمنتجات النهائية. بعض منشآت القطاع العام لدينا تُدار في الغالب - مع الأسف الشديد - ب " البركة " إن صح التعبير، فلا تكاد تتوفر عليها تطبيقات الثقافة التنظيمية – حتى في حدودها الدُنيا - بما تشتمله من قِيم ورؤية ورسالة وأهداف وبرامج. ومن المثير للدهشة أنَّ هذه المنشآت تحتوي إدارات للتقنية والتخطيط والتطوير، ولكنها أشبه بخيال مآتة، مجرد هياكل إدارية تمَّ حشوها بموظفين غير مؤهلين، يفتقدون المهارات الفنية والمعرفية والتنظيمية الفاعلة. ومن ثمَّ، فحالهم مثل فاقد الشيء لا يمكن أن نتوقع منه العطاء والإنتاج والتميز. وإزاء هذا الحال، وفي مثل هذه المنشآت التي تُدار في الغالب من قبل قيادات بيروقراطية أو أوتوقراطية، فمن الطبيعي أن تسود بيئات عمل غير صِّحية، تُغذِيها النظم والأساليب التقليدية والوساطة والمحسوبية، والصراعات على المناصب والترقيات، والتَّهافت على المكافآت والحوافز دون وجه حق، وتمكين المصالح الخاصَّة الضيقة على حساب المصالح والأهداف العمومية. وبما يقف حجر عثرة أمام مشاريع التطوير والتحديث الآنية والمستقبلية، وما يصاحب ذلك من انخفاض عام في مستويات الأداء والكفاءة والإنتاجية، والتخبط والارتجال في صناعة القرارات وتنفيذها. فضلاً عن استمرار تبديد الموارد وإهدار الوقت وقِيم العمل. وتأخير أو تعطيل مصالح الناس واحتياجاتهم. على كل حال هذه الإشكالية، قابلة للاستمرار لسنوات طويلة، ما ظَّلت هذه القيادات البيروقراطية أو الأوتوقراطية التي أشرتُ إليها آنفاً جاثمة على مقدرات وموارد وبيئات عمل منشآت القطاع العام. ولم يكن هناك سياسات أكثر شفافية في اختيار القيادات الإدارية، وفق مقاييس فنية ومهنية عالية. فالقيادات المؤهلة يمكن لها تطوير بيئات العمل، وإثرائها بالتفكير والتخطيط الإستراتيجي، والإبداعي، والاستشرافي، بما في ذلك رفع كفاءة الموظفين، وتحفيزهم مادياً ومعنوياً، وإشراكهم في المناقشة وصنع القرار. وتأهيل المتميزين منهم لإدارة بعض المهام، في انتظار استكمال خبراتهم لقيادة منشآتهم مستقبلاً. كلمة أخيرة: معالي وزير التجارة نموذج رائع للقيادي الواعي والمبدع والمخلص الذي نجح في فترة قصيرة نسبياً مع فريقه الإداري في إعادة إحياء وظائف ومهام وزارة التجارة، بعد أن ظلت، ولعقودٍ من الزمن حاضرةً على استحياء شديد نسبياً، وغير فاعلة في إدارة مهام تنظيم التجارة الداخلية والعلاقة بين المستهلك والتاجر، وضبط الأسعار، ومراقبة التجار، وقضايا الغش ... الخ. وعليه، فإنَّ الوطن لا يخلو من الكفاءات المخلصة والمؤهلة ولكن من المهم حُسن الاختيار لسلامة القرار. شَذْرَةٌ: القيادةُ هي القدرةُ على تحويل الرؤية لواقع.