هناك ضعف وجمود مهني في القطاع الحكومي، وقد أثر هذا الضعف سلبيا على مستوى الأداء المهني في الحكومة، وفي المجتمع عامة، مقارنة بالأداء المهني في دول أخرى. من علامات ونتائج هذا التدني كثرة المناداة بتعديل وتطوير الأنظمة واللوائح الصادرة عن الأجهزة الحكومية، حتى ولو كان صدورها حديث العهد، ودأب الأجهزة الحكومية على الاستعانة وبكثرة بمتخصصين من خارجها لتقديم خدمات استشارية وإعداد دراسات وتقارير في مجالات اقتصادية أو زراعية أو مالية أو قانونية أو تنظيمية.... الخ مما كان مفترضا أن ينجز أكثره بواسطة موظفي الأجهزة الحكومية المعينين على وظائف تخصصية، أسوة بما يحدث في دول أخرى كثيرة. وحتى لا يفهم التعميم في كلامي فإن ما قلته لا ينفي وجود كفاءات وطنية عالية المستوى، ولكنها وبصفة عامة قليلة ويبدو أن الاستفادة منها دون المطلوب. من أسباب تدني المستوى المهني الحكومي أن: 1- تصنيف الوظائف الحكومية باستثناء التخصصات الطبية وربما تخصصات أخرى قليلة- لم يأخذ بعين الاعتبار وجود حقول أو مهارات تخصصية ضمن التخصص العام تكتسب خلال الدراسة الأكاديمية أو أثناء العمل. فالتوصيفات المبينة في «دليل تصنيف الوظائف في الخدمة المدنية»، المجلد الأول، الصادر عام 1419، مجملة ليس فيها اعتبار للمهارات الدقيقة أو المتخصصة، ضمن التخصص العام. 2- معايير التقويم المتبعة للتعيين أو الترقية على أغلب تلك الوظائف لا تكفي للحكم باكتساب الكوادر السعودية المهارات المنشودة، كما أنها لا تكفي لترغيب المتخصصين في تطبيق المهارات المنشودة أثناء العمل، أو لتحديث معلوماتهم المهنية. من المعروف علميا، أنه توجد حقول تخصص داخل التخصص العام، ففي تخصص الاقتصاد مثلا هناك اقتصاد التجارة الدولية، واقتصاد الطاقة، والاقتصاد الكلي، واقتصاد البيئة والموارد الطبيعية، واقتصاد الأعمال، والاقتصاد الرياضي، والاقتصاد القياسي، واقتصاد المالية العامة، واقتصاد التمويل، والاقتصاد النقدي ì.الخ. وحقول التخصص تلك توجد عادة على مستوى الدراسات العليا، وعلى مستوى الحياة الوظيفية. وليس هناك فرد متخصص أو ماهر في كل الحقول، أو حتى في أكثرها. نعم هناك من عنده اطلاع على حقول وقضايا كثيرة في الاقتصاد، ولكن لا يمكن له أن يكون ماهرا فيها كلها أو أكثرها، كما أن تنوع وتعدد الاهتمامات يأتي على حساب العمق. وأما فيما يخص السبب الثاني، فإن أساليب أو طرق التقييم التي يعتمد عليها لإعطاء رأي يتصف بالنزاهة والموضوعية للتأكد قدر المستطاع من تحقق المتطلبات في المرشح للوظيفة هذه المعايير أو الأساليب المتبعة حاليا في أنظمة ولوائح الخدمة المدنية للتعيين أو الترقية على الوظائف التخصصية الاقتصادية لا تعتبر كافية لمعرفة مدى أهلية واستحقاق المرشحين لشغل تلك الوظائف، بل هي أضعف وأدنى من أن يعتمد عليها. عدد سنوات الخدمة هو أول المعايير المتبعة حاليا، ولكن من المشهور أن عددا كبيرا من الموظفين المعينين تحت مسميات اقتصادية من المشهور أن عملهم يغلب عليه أو يطغى عليه الجانب الإداري البيروقراطي، ومن ثم فإن أكثر المهام التي يؤدونها لا تطبق فيها المهارات والأدوات الاقتصادية التي تعلموا أساسياتها في الجامعة. وحتى لو طبقوا شيئا منها، فإنه يغلب عليهم الجمود في المعلومات، والانقطاع عن تحديث مهاراتهم ويقل أو يندر اطلاعهم على وسائل المعرفة المتنوعة من كتاب وغيره لتطوير قدراتهم. معيار آخر هو تقويم الأداء، ولكن تقويم الأداء لا يعتمد عليه اعتمادا قويا للحكم على مستوى المرشح علما ومهارة، بسبب نقص المعايير الفنية الموضوعية الكافية لتقييم الموظف المتخصص، وبسبب تفشي عوامل المحاباة والتساهل في أوساط الدوائر الحكومية، وهذا أمر معروف جيدا لدى المسؤولين في وزارة الخدمة المدنية. الواقع يؤكد أن مستوى المعينين على الوظائف التخصصية الحقيقي لا يرقى في حالات كثيرة إلى متطلبات تلك الوظائف. إن أكثر الأجهزة الحكومية تنقصها الكفاءات الماهرة في مجال عمل تلك الأجهزة رغم كثرة المعينين فيها على وظائف تخصصية، ومن دلائل هذا النقص كثرة الاستعانة وباستمرار بمتخصصين ومستشارين وخبراء خارج الأجهزة الحكومية، مع أنه يفترض أن يسد المعينون على وظائف تخصصية مسد هؤلاء المستعان بهم في أكثر الأحوال. يجب أن يقضي المعينون على وظائف تخصصية اقتصادية جزءا أساسيا من سنوات الخدمة في أعمال التحليل الاقتصادي في حقل أو في حقول اقتصادية بحيث تكون الخدمة دالة دلالة فعلية على اكتساب خبرة فنية في تلك الحقول. ويجب أن يعملوا على تطوير قدراتهم وتحديثها. ويلاحظ أن هناك تساهلا شديدا في استعمال كلمة باحث في تصنيفات الوظائف، حيث يعطى هذا لقب باحث لحديث التخرج، وهذا لا يتفق مع معنى ودلالة كلمة باحث وبحوث، ذلك لأن القدرة على عمل البحوث تعد قمة التمكن من التخصص. ولأجل ذلك فإن عمل البحوث يقوم به متخصصون على درجة عالية من التأهيل، وعليه فإنه يفترض أن يكون لقب باحث أعلى من لقب أخصائي. حيث إن تصنيف الوظائف الحكومية فيه عيوب كبيرة، لذا لا بد من إعادة التنظيم في التسميات للوظائف، حسب الحاجة. ويتزامن مع ذلك توصيف أدق للوظيفة، وإلى وضع مواصفات أدق في صاحب الوظيفة، بما يسير مع الاتجاه المتعارف عليه علميا ومهنيا، وكما هو متبع في الدول والمنظمات الدولية المتطورة إداريا. وفي هذا فإنني أقترح استشارة المتخصصين الذين يحملون مؤهلات عالية علمية وعملية سواء من داخل أو خارج المملكة. تعطى دلالات للكلمات تقرير ودراسة وبحث على أساس أن التقرير يحوي معلومات فنية قليلة والدراسة تحوي معلومات فنية غير عميقة بحيث أن المهتم بالموضوع من غير المتخصصين -مثلا كبار المسؤولين في مجال عمل معد الدراسة من غير المتخصصين في الاقتصاد - يفهم المحتوى، أما البحث فعادة موجه إلى المتخصصين، ولذا تكون لغته بالغة التقنية. على سبيل المثال، أقترح إعادة التسميات والتوصيف بحيث يسمى حديث التخرج، أخصائي مساعد، وعند الترقية بما لا يتجاوز المرتبة التاسعة مثلا يعطى لقب أخصائي، ويبسط في ذكر المتطلبات. مثلا، بدلا من اشتراط مطلق في توفر قدرة على إعداد البحوث، تعدل إلى توفر قدرة على إعداد الدراسات أو البحوث البسيطة التي لا ترقى إلى مستوى الدراسات والبحوث المنشورة في المجلات العلمية. أما المراتب الأعلى فينبغي أولا أن تعطى مسميات أكثر تحديدا، كما هو شائع دوليا، ومن أمثلة هذه المسميات مسمى متخصص في اقتصاد الطاقة، متخصص في الاقتصاد الدولي، متخصص في الاقتصاد الصناعيì الخ. من المهم أن يشار إلى وجوب التفرقة بين الترقية الوظيفية البحتة والترقية الوظيفية الفنية، فيمكن أن يرقى الموظف إلى مراتب عليا، لكن دون أن يعطى ألقابا ومسميات لها متطلبات فنية أو مهارات غير متوفرة فيه التوفر الكافي. كذلك أقترح تبني أساليب تقويم متنوعة زيادة على تقرير مستوى الأداء على أن تتصف هذه الأساليب بالموضوعية وأن يلتمس فيها تحقيق أعلى نزاهة ممكنة عند التعيين أو الترقيات على الوظائف التخصصية من المرتبة العاشرة فصاعدا. تحقيق هذا الاقتراح يتطلب إنشاء إدارة أو مركز للتقويم تابع لوزارة الخدمة المدنية، كيف وقد رأينا إنشاء مركز لتقويم الطلاب المتقدمين للجامعات. إن تقويم الموظفين المتقدمين للترقية على وظائف تخصصية مهمة ومؤثرة في حسن أداء الجهاز الحكومي ليس أقل أهمية من تقويم الطلاب. وفي هذا الصدد يمكن الاستفادة من فكرة مركز تقويم الطلاب، ومن الخبرات المتوفرة والأساليب المطبقة في الجامعات وفي الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، وفي بعض الشركات، والمؤسسات المتخصصة في تقويم الموارد البشرية، كما أن في تجارب وخبرات بعض الدول والمنظمات الدولية في تقويم وترقية المتخصصين ما يفيد ويعين على الإصلاح. كما أن على وزارة الخدمة المدنية الاستفادة أولا من منسوبيها ومن معهد الإدارة العامة. لكن في هذا المقام أشير إلى مشكلة تعارض المصالح. وهي مشكلة أرى أنها من أسباب بطء أو تجاهل معالجة عيوب الإدارة الحكومية. من يتصدى لدراسة أو إعطاء مشورة أو يعطي حكما حول شأن، فإنه يفترض أو يحسن أن يكون طرفا محايدا في موضوع الدراسة أو المشورة، ولكن الواقع هو طلب الرأي والمشورة من موظفين هم أنفسهم سيكونون خاضعين ومتأثرين بما سيوصون به.