في سياق التكون الإمبراطوري للولايات المتحدة الأميركية حالياً، أو «السوبر إمبراطورية»، جرى ويجري ويستمر في الجريان تطوير مفاهيم ونطريات جديدة لاستيعاب هذا التكون المعقد.«الفوضى الخلاقة» أو البناءة، هو المفهوم الأبرز، الذي أطلقته الإدارة السياسية في الولاياتالمتحدة، منذ سنوات، لتوصيف سياستها في الإقليم العربي وفي أكثر من منطقة منه. وقد كان المفهوم صادماً للعديدين في المنطقة والعالم، عند إطلاقه لأول مرة، لا سيما وقد ترافق تطبيق ذلك المفهوم الأميركي مع اضطرابات وتقاتل داخلي وفظائع بشرية ابتداء في الصومالوالعراقولبنان وفلسطين. وقد عاشت كل المجتمعات العربية حالات مختلفة من التوتر والاحتقان أدت إلى انفجار بعض البلدان مثل تونس ومصر وليبيا وسورية وتعرضت بلدان أخرى إلى تسونامي ما يسمى الربيع العربي الذي لا تزال تفاعلاته الساخنة والباردة تضرب بعض الكيانات وتهدد كيانات أخرى. وقد سبق كل ذلك وترافق معه وبشكل صريح وفج ما بشرت به أميركا أهل المنطقة بأن هديتها المسمومة لهم هي في تعميم الفوضى الخلاقة كعقيدة سياسية للهيمنة على المنطقة ومن خلال استباحة المنطقة العربية عبر تفكيكها وإعادة تركيبها في إطار صياغة مشروعها الامبراطوري تحت عنوان الشرق الأوسط الجديد أو الكبير. استخدمت الولاياتالمتحدة كل أسلحتها وسياساتها لإطلاق مجموعة كبيرة ومعقدة من الضغوط الاجتماعية والسياسية والأمنية والثقافية على كل دول المنطقة العربية وجوارها، وهي ضغوط تعددت مستوياتها وتشابكت، لتشمل بنية الدولة العربية ونظامها السياسي ومؤسساتها واستخدمت الولاياتالمتحدة كل أسلحتها وسياساتها لإطلاق مجموعة كبيرة ومعقدة من الضغوط الاجتماعية والسياسية والأمنية والثقافية على كل دول المنطقة العربية وجوارها، وهي ضغوط تعددت مستوياتها وتشابكت، لتشمل بنية الدولة العربية ونظامها السياسي ومؤسساتها، وكذلك الشعب وهيئاته المدنية والحزبية. والتعقيد هنا يأتي من أن ما تطلبه الولاياتالمتحدة من الأنظمة في مواجهة شعوبها بشكل مباشر، يتناقض في ذات الوقت مع ما يطلب من هذه الأنظمة على مستويات اخرى، بل ويتصادم مع العناصر الأساسية المكونة للدولة والمجتمع، والمحصلة، في هذا كله، هي تفكيك عنيف لعناصر الكيان الاجتماعي والسياسي للدولة القطرية العربية بشكلها الحالي. تأتي المحنة هنا، من أن الأنظمة والشعوب ترفض وبشدة عملية التفكيك للدولة العربية، ولكنها تختلف في الرؤى والشكل والأساليب، فبالإصلاح، أي تطبيق برامج التأهيل والإصلاح للبنى الاقتصادية والسياسية والأمنية، تم التوافق بين الولاياتالمتحدة وبين معظم الأنظمة العربية على تحقيق ما هو مطلوب، في عملية طويلة، وباستحداث منظمات مجتمع مدني جديدة ضاغطة، ومراكز بحث وتيارات سياسية جديدة، تم اختراق بنية المجتمعات العربية بعناوين كبيرة وعادلة.الإصلاح المقصود، بتطبيقاته، يرفع مظلة الحماية الاجتماعية والاقتصادية للدولة العربية عن معظم شرائح مجتمعها، بالسعي نحو التحرير المطلق للتجارة والاقتصاد، ويُفقد الدولة، التي لم تنجز بعد اقتصادات ومظلات حماية قادرة على الصمود بشكل مستقل، تماسكها، فضلاً عن إفقاده لها موارد أساسية هي عماد قوامها، ما يحولها إلى مجرد إدارة، فاقدة لقدرة الإرادة، على الأقل في ظل شكل الطغيان الحالي للعولمة. الشعوب العربية تدرك ذلك ولو بالغريزة، والتيارات السياسية الحقيقية تدرك ذلك ايضاً، وترى في الرفض المطلق لسياسات الولاياتالمتحدة وضغوطها الحل الأمثل لما يواجه الدولة والمنطقة، ومن يتبنى، من هذه التيارات، أي عنوان من عناوين الإصلاح، كحقوق الاإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، يجد نفسه مباشرة، شاء أم أبى، في مواجهة نظامه السياسي المحلي، وفي موقع الموافق على سياسات الولاياتالمتحدة، المقترحة والضاغطة في آن. فرفض تلك السياسات، من وجهة نظر هذه التيارات، هو رفض للتفكيك، ما يضعها موضوعياً في موقع الدفاع عن أنظمتها القائمة، وهو ما ترفضه نظرياً. محنة، تجعل محصلة الجهد للنظام السياسي العربي والتيارات السياسية المعارضة صفراً مطلقاً، من وجهة نظر داخلية محلية، أما من موقع خارجي فمحصلة الجهد بطرفيه هو عملية تفكيك، بطيئاً كان أو سريعاً، سلمياً كان أو عنيفاً، مولداً لحركات تطرف سري أو كاتماً ومؤجلاً لها، وهو ما أسمته الولاياتالمتحدة ب «الفوضى الخلاقة». مؤخراً، أي قبل ثلاث سنوات، جرى في الولاياتالمتحدة تطوير ودمج كل عناصر الضغط المعقدة في الدول المطلوب إحداث التغيير الجذري فيها، إذ جرى استحداث مفهوم «الدول الفاشلة» ليكون مصدراً نظرياً للسياسة الأميركية، وعلى رأسها العمل العسكري، للتعامل مع دول العالم الثالث، وخصوصاً في المنطقة العربية. بالتعاون بين «مركز التمويل من أجل السلام» وبين مجلة «فورين بولسي» تم تخليق قوائم «الدول الفاشلة» سنوياً، وهي قوائم يتم إعدادها سنوياً استناداً إلى ثلاثة معايير هي: المعيار الاجتماعي، المعيار الاقتصادي، والمعيار السياسي، معايير تشمل في تقييمها قدرة الدولة أو فشلها في «ضمان الأمن» وتأمين «حاجات مواطنيها الاساسية» وامتلاكها ل «شرعية سياسية».والمعايير الأساسية الثلاثة السابقة تتضمن اثني عشر معياراً فرعياً، بحيث تشمل: الضغوط السكانية، حركة كتل اللاجئين، انعدام برامج التنمية بين الأقليات، التدهور الاقتصادي الحاد، الجرائم الاجتماعية للدولة، نقص الخدمات العامة، إعلان حالة الطوارئ وتدهور حقوق الإنسان، والانقسام الأمني الداخلي كحالة ان تكون هناك دولة داخل الدولة، وغيرها. حتى الآن، تم إصدار ثلاث قوائم منذ العام 2005، في القائمة الأولى كان مجموع الدول الفاشلة، بحسب هذه المعايير الأميركية هو (75) دولة، وفي القائمة الثانية كان المجموع (146) دولة، اما القائمة الثالثة لعام 2007 فقد بلغ المجموع (177) دولة. القوائم الثلاث تشمل معظم الدول العربية والإسلامية، وربما كان من اللافت تغير ترتيب بعض الدول العربية، كدول فاشلة، وسائرة في طريق التفكيك، مقارنة مع سياساتها المعلنة وتغيراتها، ففي القائمة الأولى كان الترتيب: «السودان 3، العراق 4، الصومال 5، اليمن 8، سورية 29، لبنان 37، مصر 38» والترتيب في القائمة الثانية كان: «السودان 1، العراق 4، الصومال 7، اليمن 16»، أما القائمة الثالثة ففيها: «السودان 1، العراق 2، اليمن 24، مصر 36، سورية 40».أما الأكثر إثارة، ولفتاً للانتباه، في معايير هذه القوائم، فهي انها لا تأخذ في الاعتبار دور العوامل الخارجية في فشل أو «تفشيل» هذه الدول، بل تضعها كأسئلة استفتاء للقراء. القائمون على المشروع، يطمحون إلى أن تكون قوائمهم مرشداً ومحدداً لأماكن التدخل العسكري الأميركي الضروري في العالم، ويبررون ذلك بان هذه الدول الأضعف في العالم لا تشكل خطورة على نفسها فقط، ولكنها قادرة، بواقع فشلها، على نشر حالة عدم الاستقرار في طريق أكثر من نصف دول العالم، عالم تطمح الولاياتالمتحدة الأميركية أن تعيد «تفكيكه وتركيبه»، كسوبر إمبراطورية، بادئة به من الشرق الأوسط العربي..،؟