ما تعرضت له المجتمعات العربية على مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة من اختلالات واضطرابات وانفجارات وصراعات على السطح وأخرى كامنة مقلقة ومخيفة لا يمكن تفسيره بأنه حالة عارضة آنية فقد كان حصاداً مراً هو بالتأكيد حصيلة تراكمات من القصور على قاعدة الإهمال واللامبالاة وترحيل كل السلبيات للمستقبل إلى أن اصطدمنا بلحظة الحقيقة وهي التمادي في القصور، مقصرون نحن في كل شيء في عالم العرب. السياسيون مقصرون. المفكرون والمثقفون والنخب كلهم مقصرون. وأول التقصير هو في إنتاج المعارف الحقيقية، واللازمة لإدراك أوضاعنا الراهنة. ولا أقول وضع راهن واحد، فكل راهن عربي، ومن دون تهم القطرية والانعزال، صار يقضي بإنتاج جهاز ضخم من المفاهيم الخاصة لإدراكه، ومن ثم التعامل الراشد مع حقائقه المعرفية كما هي.الجميع بكثير من التوصيف، والجميع ينحو للإقلال من إنتاج المعارف، فترس عجلة التغيير الضخم وصل ها هو زمان عجز الدولة القِطرية عن تحقيق متطلبات حياة الجماعة أو الجماعات يطل برأسه. ومن يتمنع عن الاستجابة لعناصر الضغط في بنيته، ها هي قوة التغيير الكوني تحيل هدم الدولة القِطرية في بلادنا بكل مكوناتها إلى عنوان، بعد أن كان في زمن ما همساً أو هواجس. فاستحالت ثرواتنا ومواردنا إلى لعبة وكابوس إلى«مرافئ الشرق» وصحاريه بأسرع مما توقع النابهون، وحين انفجرت حلقات التحول والتغيير من عقالها، لم نجد سوى قوارب مفاهيمنا المثقبة، من زمن الهزائم، للإمساك بهذه الفوضى العارمة.لم تعد حقائق الصراع في بلداننا، وفي هذا الكون، سهلة وبسيطة كما كانت. وما منع قوله سابقاً، أو تمنعنا عنه، ها هو اليوم «يقال بعنف أكبر».نسبياً، والمقصود هنا الفرص والموارد، خسرنا معارك التنمية بشكل شبه كامل. ولم تعد معارك استقلالنا الوطني أقل خسراناً وفداحة، وانزلقنا، بالتالي، من محاولات الحداثة إلى وهمها. لم ندرك، بالمعنى الاستراتيجي، عمق التحولات التي أحدثها عقد بلد عربي أو بلدان تسوية قانونية مع إسرائيل. هربت معارفنا السياسية والثقافية من محاولة إنتاج مفاهيم هذا التحول، إلى فضاء التخوين والتشكيك. فاعفينا أنفسنا من متابعة مسار ترس العجلة الضخم. الى أن صارت البلدان العربية مسرحاً رئيسياً لحروب التغيير الكوني. فالعدو، الذي لم يعد واحدا، لم يعد يوحدنا. ونموذجا النهضة العصريان صارا من المستحيلات. فإنتاج النهضة، في ظروف بلداننا الخاصة، كما حققها الغرب بثوراته الصناعية والسياسية والثقافية، لم يعد ممكناً وها هو زمان عجز الدولة القِطرية عن تحقيق متطلبات حياة الجماعة أو الجماعات يطل برأسه. ومن يتمنع عن الاستجابة لعناصر الضغط في بنيته، ها هي قوة التغيير الكوني تحيل هدم الدولة القِطرية في بلادنا بكل مكوناتها إلى عنوان، بعد أن كان في زمن ما همساً أو هواجس. فاستحالت ثرواتنا ومواردنا إلى لعبة وكابوس.قبل ربع قرن، صرخ المفكر العربي اللبناني «غسان سلامة»، واصدر كتيبه الصغير «نحو عقد اجتماعي عربي جديد». وفيه صاغ لأول مرة مفهوم «اللحظة الليبرالية في المشرق العربي». ودعا إلى إنتاج عقد اجتماعي تكون الدولة العربية فيه طرفاً، والمجتمع الأهلي والمدني طرفاً آخر من هذا العقد وفيه أيضاً رؤية نادرة، بأن نظاماً عربياً جديداً، اجتماعياً وسياسياً، هو قيد الظهور والتشكيل. وإن الخيار المتاح أمامنا، هو: إما أن نسهم ونشارك بشكل سلمي في إنشاء هذا النظام، أو أن ندعه يظهر وحده، مكتوباً وفقاً لمنطق القوة والإجبار ولمصلحة القوة أو القوى الأجنبية. لم يكن حينها في العالم العربي قد طفا على السطح من أحداث ما يؤكد رؤية سلامة. فالركود المقيت كان يسكن القارة العربية. باستثناء لبنان، الذي كان يعيش سنوات حربه الأهلية المدمرة الأخيرة، ليفضي بعد عامين إلى توافق «الطائف»، وهو عقد اجتماعي جديد ومؤقت. وحتى هذا العقد، الذي أوقف الحرب، ومنح الناس فرصة التقاط الأنفاس، جرى تجميده وشله، لأسباب متعددة تتصل بممانعة القارة العربية للتحول وعجزها. من المفارقات الخطيرة، والإغريقية في مأساويتها إصرار حزب سياسي لبناني مسلح على أن يكون له سلطة فوق سلطة الدولة وامتلاكه قوة أكبر من قوة الجيش مع غطاء عبر تيار سياسي يشكل ما يقارب من نصف المكون السياسي اللبناني الذي لا يعترف بالمكونات والاتفاقات الوطنية التي تمت برعاية إقليمية ودولية وأكثر من ذلك لا يعترف بمخرجات نخب الحوار التي كان وافق عليها وهو يلوح باستخدام القوة وأحياناً بالعصيان المدني، حيث العصيان المدني، الذي هو في مضمونه دعوة لانهيار الدولة الحديثة بالكامل، والعودة إلى التشكيلات الاجتماعية الأولية المكونة للجغرافيا اللبنانية. ومن نافلة القول، إن العصيان المدني هو مفهوم انتجته الشعوب وحركات التحرر الوطني في مرحلة تخلصها من الاستعمار، عبر رفضها الصيغة «الكولونيالية» كعقد اجتماعي وسياسي لحياتها. المخيف، حد الرعب، هو تحول القوى المدنية والسياسية في بلداننا العربية إلى تصور إمكانية استخدام أي سلاح في متناول اليد في صراعها مع خصومها لا أعدائها، حتى لو كان هذا السلاح يوصل الى الهدف الذي تحدثه القوة الأجنبية، وفق منطق التغيير الذي تراه في القارة العربية. لم نطرح أسئلتنا الحقيقية على أنفسنا سابقاً. بل ولم نمتلك القدرة على ذلك لاحقاً. واستمرأنا توصيف الغرب لأحوالنا. فالنكوص بدأ حين ضحينا بالمشاركة الشعبية الحقيقية في عملية التنمية. وهو ما أوصلنا إلى تمجيد الاستبداد وتبريره، تحت شعار إن المعارك الوطنية والقومية هي فقط معارك عسكرية..