تكبر المدن وتتغيّر، يحدث ذلك حينما تتبدل سماتها الأولى من مجرد أحياء صغيرة تسللت إليها المدنية فغيّرت من ملامحها، فتلك الأحياء البسيطة التي كانت هنا تبدلت ملامحها واتسعت شوارعها وبُنيت فيها البيوت الفاخرة ورُصفت شوارعها و"سُفلتت" لتتماشى مع مفهوم المدنية.. المدينة هنا تخوض صراعاً كبيراً بين هويتها الماضية التي كانت تنعكس على أفراد المجتمع وبين صبغتها الجديدة التي جعلت منها صورة ملونة بالكثير من الحداثة والتطوير، فمفهوم الأحياء الصغيرة والقرية لم يعد بتلك القوة نتيجة اتساع المدن وتمددها حتى خرجت إلى حدود أبعد مما كانت عليه في وقت مضى. ومع ذلك فإنَّه حتى حينما دخلت المدينة في طور المدنية الحديثة وأصبحت أكثر عصرية واتسعت طرقاتها وتطاولت مبانيها، إلاَّ أنَّها تبقى تلك المدينة التي تجمع الناس على أرض مستوية واحدة، في ظل اختلاف مفهوم الصلة والتقارب بين أفراد المجتمع عما كان عليه في السابق، إذ لم يعد الجار يعرف جاره بشكل جيد، ولم يعد البعض مهتماً بمعرفة أحوال أقاربه أو التواصل مع الآخرين بسهولة وتلقائية دون أن تكون هناك حدود الجار لا يعرف جاره.. والبعض لم يعد مهتماً بمعرفة أحوال أقاربه أو التواصل مع الآخرين بتلقائية فاصلة بين الطرفين، ففي القرية كانت الحياة أكثر بساطة وتجانساً وتقارباً، في الوقت الذي لم يعد ذلك موجوداً بهذا الزخم في المدينة. ويبقى السؤال المطروح: هل رسّخت المدن مفهوم القطيعة حتى أصبحت مدناً للقطيعة فعلاً؟، أم أنَّها بريئة من هذه التهمة؟، وبالتالي فإنَّ الأسباب تتعلَّق بأمور بعيدة عن مدن سارت في ركب التغيرات الكثيرة التي طرأت على المشهد الحضاري والاجتماعي في الآونة الأخيرة؟، وهل نحن حقاً نحتاج إلى أحياء متقاربة لنعود كما كنَّا عليه سابقاً على صعيد تقاربنا مع من حولنا؟، أم أنَّ التغيُّر الكبير بدأ من داخلنا قبل تلك المدن؟. سوق الخبر في منتصف السبعينيات الهجرية حيث كانت الحياة شاهدة على الترابط والتكافل بين الجميع ترابط اجتماعي وأشارت "أمجاد صالح" إلى أنَّ للمدن واتساعها وتمدنها دورا كبيرا في إشاعة القطيعة بين الناس، مضيفة أنَّ العديد من أفراد المجتمع أصبحوا مشغولين بأمور أبعدتهم كثيراً عن واقع مد جسور التواصل مع الآخر، مشيرة إلى أنَّ المُغريات كانت في السابق أقل وطأة مما هي عليه الآن، إذ كان الفرد يطمح أن يخرج في زيارة حميمة لأحد أفراد عائلته حتى يستمتع معه ويعيش أجواء من الرحمة والألفة والمحبة والتقارب. وبينت أنَّ الخروج كان لابد أن يكون بالاتفاق مع أحد الأقارب حتى يكون أجمل، في حين تغير ذلك كثيراً حالياً، مضيفة أنَّ مفهوم المدنية غير كثيراً من طريقة تفكير العديد من أفراد المجتمع، مشيرة إلى أنَّ كثيرين أصبحوا يفضلون الخروج إلى الأسواق والمجمعات التجارية لقضاء بعض الوقت، أو ربما خرجوا إلى الحدائق برفقة أفراد أُسرهم دون علم أقاربهم، لافتة إلى وجود من يُفضلون قضاء جزء من أوقاتهم في المقاهي برفقة بعض الأصدقاء، الأمر الذي أثَّر بشكل سلبي على مفهوم الترابط الاجتماعي. وأضافت أنَّ البعض باتوا يخشون حسد أقاربهم لهم، موضحة أنَّهم حينما يسألونهم عن برنامجهم اليومي، فإنَّهم يحاولون عدم إطلاعهم عليه؛ لأنَّهم لا يرغبون في مشاركتهم لهم هذا البرنامج، مشيرة إلى أنَّ اتساع المدن وتباعد أحيائها جعل كثيرا من الأفراد يتثاقلون تواصلهم مع أقاربهم؛ لأنَّهم يخشون أن يضيع وقتهم في زيارة لم يعودوا يؤمنون بأهميتها أو بأثرها الايجابي. مقاهي ومطاعم المدن ساهمت في التواصل مع الآخر حواجز عالية وأكدت "وصال إسماعيل" على أنَّ المدن والمدنية بريئة مما يحدث بين المقيمين عليها من قطيعة، موضحة أنَّ هناك العديد من الدول المتمدنة في العالم، بيد أنَّ الناس فيها متقاربون ويرتبطون مع بعضهم البعض بصلات قوية، مبينة أنَّ المشكلة ليست في اتساع المدن ونهضتها التي أصبحت تلوّن حياة الناس حتى بدت قلوبهم متباعدة ومتنافرة وتخشى من كل شيء على أيّ شيء. وأضافت أنَّه كثر الحديث عن الحسد والغدر وقلة الضمير، لدرجة أنَّ تلك الصفات السيئة أصبحت تُشكِّل حواجز عالية بين الأفراد، مشيرة إلى أنَّ الحذر أصبح موجودا بين الكثير منهم؛ مما قلل من مقدار التواصل الاجتماعي فيما بينهم، كما أنَّ العديد منهم باتوا يفضلون العزلة وعدم التواصل، ليس لكثرة انشغالاتهم بل لخوفهم من حدوث مشكلات تصيبهم حينما يقتربون من أقاربهم أو جيرانهم. وأوضحت أنَّ تمدّن المدن وتطوّرها يجب أن يشكل حافزاً أكبر لتواصل الناس وليس لقطيعة بعضهم بعضاً، موضحة أنَّه كلما تمدنت المدن فإنَّ ذلك يعني أنَّ الحياة أصبح فيها من السهولة ما يجب أن يدفع الآخرين نحو التواصل مع بعضهم البعض، مشيرة إلى أنَّه أصبح يوجد الآن خيارات كثيرة يستطيع الأقارب ابتكارها حتى يوجدوا تجمّعات أسرية ممتعة وجميلة، مبينة أنَّ البعض باتوا يتخذون من تباعد البيوت وتزاحم الشوارع ومن المدن الشاسعة سبباً في القطيعة، ولكن الحقيقة قطعاً تختلف عن ذلك. اليوم قليل من يسأل عن جاره لقمة العيش ولفتت "مجد عبدالعزيز" إلى أنَّ لاتساع المدن وتطورها دورا كبيرا في القطيعة التي تفاقمت آثارها بشكل كبير بين العديد من الأقارب، مضيفة أنَّ ذلك لم يحدث لأنَّ المدينة أصبحت لا تُمكنهم من الوصول إلى الآخرين بسهولة، بل لأنَّه كلما زاد تمدن مدينة ما وشاعت العصرية فيها، كلما زاد معدل تكلفة المعيشة فيها، وبالتالي أصبح الفرد مشغولاً بتأمين لقمة العيش والبحث عن سبل جديدة لتحسين أوضاعه المادية؛ لكي يُجاري هذا التمدن والتطور الحاصل في المدن. وأضافت أنَّ ذلك هو ما دفع الكثير للابتعاد عن مفهوم التواصل الاجتماعي، فأصبحت مشاغل الحياة كثيرة لأنَّها تتطلب تأمين العيش، فالفرد أصبح يحلم بتحقيق حياة مرفهة وجيدة له ولأسرته، وذلك ما جعله يشتغل كثيراً بالركض خلف الحياة ومشاغلها، فلم يعد التواصل الاجتماعي من أولى اهتماماته، بيد أنَّ هناك أموراً أخرى باتت أهم، موضحة أنَّ التواصل الاجتماعي والاجتماع مع الأقارب تغير كثيراً عن ذي قبل. وبينت أنَّه أصبح هناك كلفة مادية جعلت البعض يفكرون كثيراً حينما يخططون لعمل تجمّع أسري، مضيفة أنَّ أمور الضيافة في السابق كانت بسيطة، في حين اختلف ذلك في الوقت الحالي، إذ أصبح العديد من الأفراد يستعرضون ويتفننون في هذا الجانب، مشيرة إلى أنَّ التكلفة العالية في هذا الشأن أسهمت في إيجاد شرخ كبير في العلاقات الاجتماعية، لافتةً إلى أنَّ ذلك ربما دفع البعض للتخلص من ذلك عبر جعل اللقاءات تتم في منطقة محايدة، كالاجتماع في المقاهي أو المطاعم، مؤكدة على أنَّ ذلك زاد من حجم القطيعة وأصبحت البيوت مغلقة والأسواق تعج بالعديد من الأسر. الحارة قديماً كانت نموذجاً للحياة الاجتماعية التي نفتقدها اليوم سرعة استجابة وقالت "د.سحر رجب" -مستشار نفسي وأسري، ومدرب معتمد لإزالة المشاعر السلبية- :"ليس هناك ربط بين اتساع المدن وتمددها مع حدوث القطيعة وعدم التواصل بين الأقارب والجيران والأصدقاء، فمثل هذه المشكلة حدثت مع تعدد وسائل التواصل والمواصلات، مضيفة أنَّه من المؤسف أن يكون هناك تباعد بين الناس نتيجة ضعف الصلة الاجتماعية بينهم، لدرجة أنَّ الجار أصبح لا يعرف جاره، وليس لديه إلمام حتى بأحواله". وأشارت إلى أنَّ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- حث على زيادة الصلة بالجيران والأقارب، موضحة أنَّه كان هناك تقارب بين الناس في السابق انعكس على حياتهم بشكل إيجابي وجميل، فليست البيوت متقاربة فحسب، بل إنَّ القلوب متقاربة أيضاً، كما أنَّ هناك سرعة استجابة لنداء الجار لجاره ومشاركته له في فرحه وحزنه وفي الأعياد والمناسبات المختلفة. د. سحر رجب وأضافت أنَّ الإشكالية في قلة التواصل هي في ازدحام جدول الفرد بالمهام والأعمال، حتى وصلت القطيعة للأهل والأرحام، فأصبحنا لا نراهم إلاَّ في حالة العزاء أو الفرح حينما يكونون مقيمين معنا في المدينة نفسها، مبينة أنَّ للتقنية الحديثة أثرا كبيرا في التأثير بشكل سلبي على علاقة الأفراد ببعضهم البعض، مشيرة إلى أنَّها أخذت الأسر عن بعضها البعض حتى أصبحت الغربة في النفس، كما أنَّها وصلت إلى جعل الأسرة تجتمع في مكان واحد، وربما في غرفة واحدة، ومع ذلك فإنَّ لكل شخص عالمه التقني الخاص، فنجده يتفاعل معها ويبتسم لها وربما يضحك ويهمس وكأنَّه مصاب بمس.