سأكشف سرا لولاه لكنت اليوم عضوا في أحد الأندية الأدبية.. فشخصي المتواضع لا يحب الشعر ولا يهتم بالأدب والنثر.. أملك عقلا براغماتيا يأبى السير في مالا ينتهي لنتيجة منطقية أو محصلة مادية واضحة.. لا يمكنني تضييع وقتي في قراءة "عبرات" المنفلوطي، أو ترك موسوعة علمية من أجل قصيدة نبطية (وعبرت عن ذلك في مقال بعنوان: أعطني مخترعا وخذ كل الأدباء)!! بلغة عامية مختصرة ؛ أخوكم "جِلف" فيما يخص الشعر والأدب.. ولكن -كما هو حال كل شيء في الدنيا- لكل جانب سلبي جانب إيجابي.. فمن حسنات جلافتي الأدبية أن ليس كل شاعر قادرا على خداعي أو التأثير على مشاعري- وبالتالي يمكنك أخذي كمقياس أو ترمومتر للقصائد المؤثرة في أصعب الذوائق البشرية.. الشاعر الوحيد الذي نجح في تنشيط مناطق التذوق في دماغي هو أبوالطيب المتنبي.. فباستثناء أبيات متفرقة (لشعراء لا أعرف أسماءهم) تأسرني قصائد المتنبي بحكمها البليغة، وتراكيبها الدقيقة، وفلسفتها العميقة.. في أكثر من مناسبة سألت نفسي: ماالذي يجذبك لهذا الرجل بالذات؟ .. وفي النهاية اكتشفت أن المتنبي يضمن أبياته "حصان طروادة" يمكنها اقتحام أعظم الأسوار براغماتية.. اكتشفت أن المتنبي يبدو (من الظاهر) شاعرا أديبا ولكنه (في الحقيقة) فيلسوف حكيم يعبر عن أفكاره من خلال أبيات تأبى النسيان! ... تأمل مثلا أبياته التالية: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا // وحسب المنايا أن يكن أمانيا الموت آت والنفوس نفائس // والمستعز بما لديه الأحمق قضت الأيام مابين أهلها // مصائب قوم عند قوم فوائد ذو العقل يشقى في النعيم بعقله // وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم تصفو الحياة لجاهل أوغافل // عما مضى منها ويتوقع ومن ينفق الساعات في جمع ماله // مخافة فَقْرٍ فالذي فعل الفَقْرُ لولا المشقة ساد الناس كلهم // الجود يفقر والإقدام قتال ... راجعها بعمق لتكتشف أنها ليست مجرد أبيات شعرية بل فلسفة وجودية وتأملات إنسانية وأفكار استثنائية لا يمكن أن تبدعها غير عبقرية حقيقية... انظر للبيت الأول لتدرك أن لا أحد غير المتنبي يمكنه صياغته بهذه الطريقة المذهلة (ثم) تحميله هذا القدر من الدراما والمأساوية.. انظر الى البيت الثاني لتكتشف عبقرية "السهل الممتنع" ورؤية ما يعجز عن رؤيته بقية الشعراء... تأمل البيت الثالث لتدرك قدرته على سبر أحوال المجتمعات وتقلب الأقدار (ثم) تقديم ذلك بطريقة تعجز عن استيعابها الصفحات... راجع البيت الرابع لتدرك أن مانسميه هذه الأيام شعرا في الحقيقة مجرد نظم أو رصف لكلمات جميلة تخلو من أي معنى عميق أو رسالة حقيقية.. راجع الخامس والسادس والسابع لتدرك براعته في المزج بين البلاغة والموسيقى -من جهة- والحكمة والنظرة الفلسفية العميقة من جهة أخرى!! ... بقي أن أشير الى أنه لقب بالمتنبي بسبب إدعائه النبوة في شبابه كما تشير أغلب المصادر.. وأنا شخصيا أرجح هذه الرواية كون المتنبي يملك صفتين يشترك فيهما أدعياء النبوة عموما؛ الأولى هي النرجسية والثقة بالنفس، والثانية هي بعد النظر وإدراك مآل الأمور.. النرجسية لا تتضح فقط من أبياته السابقة، بل ومن أبيات كثيرة يمجد فيها نفسه مثل: وما الدهر إلا من رواة قصائدي // إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا.. أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي // وأسمعت كلماتي من به صمم.. كلّ ما قد خلق الله ومالم يخلق // محتقر في همتي كشعرة في مفرقي ... أما قدرته على الاستقراء فتتضح (بالإضافة للأبيات السابقة) من خلال إدراكه لدور البعوضة في إصابته بالحمى حين قال: وَزائِرَتي كَأَنَّ بِها حَياءً // فَلَيسَ تزورُ إِلّا في الظَلامِ بَذلتُ لَها المطارفَ وَالحَشايا // فَعافتها وَباتت في عِظامي يَضيقُ الجِلدُ عَن نفسي وَعنها // فتوسِعُهُ بِأَنواع السقام ... الحقيقة هي أن المتنبي لا يخفي فقط أحصنة طروادة صغيرة في أبياته (أو Cookies بلغة أهل الكمبيوتر) بل ويستحق جائزة نوبل لعام 1907 عن دوره في اكتشاف دور البعوضة بدل الطبيب الفرنسي الفونسو لافيران!