من يا ترى يستطيع أن يعبر عن ألم الفنان الصادق الذي لا يساوم على فنه وإحباطاته أكثر من الأخوين كُوِن؟. فإيثان وجويل كُوِن عندما أنتجا أول أفلامها Blood Simple عام 1984، خطّا لهما طريقاً معيناً وأسلوباً سينمائياً خاصاً ليست له شعبية كبيرة، فأفلامهما لم تكن يوماً متصدرة لإيرادات شباك التذاكر، لكنها كانت دائماً في قوائم الترشيحات والجوائز، وخاصة أفلامهما: Barton Fink"" وFargo"" وO Brother, Where Art Thou?"" و "The Big Labowski" و No Country for Old Men"" و True Grit"" و "A Serious Man". ورغم أنهما قد حصدا نجاحات لم يحصدها بطل فيلمهما الأخير" لوين ديفس-Inside Llewyn Davis"، لكنهما يعرفان جيداً ماذا يعني أن تعاني من الإحباط والفشل. في مقهى جاسلايت عام 1961، نتعرف على المطرب الشعبي لوين ديفس (قام بدوره أوسكار إسحاق) والذي يعيش في مدينة نيويورك، في قرية جرينويتش. يبدأ ديفس بغناء أغنية شعبية جميلة جداً هي (Hang me, Oh Hang me) وبصوت جميل وشجي، ثم يتبعها بأغنية أخرى معرفاً إياها بالتالي: "إن لم تكن جديدة ولا قديمة، فهي أغنية شعبية". بعد الغناء يقابله شخص خارج المقهى ويضربه ضرباً مبرحاً. يصحو ديفس في الصباح في بيت الزوجين جورفاينز، فهو يتنقل بين بيوت أصدقائه للنوم، لأنه لا يملك بيتاً ولا مالاً. ثم نعرف بعدها أنه فقد حديثاً شريكه في الغناء بعد انتحاره، وأنه أصدر أسطوانة له وحده بعنوان "داخل لوين ديفس"، ولكن كما ذكر له مدير أعماله، لم يرغب أحد بشرائها. لا يمكن وصف ديفس بالشخص اللطيف، فهو يتعارك مع الجميع، حتى مع أصدقائه الذين يؤوونه، كما أنه مخادع وعلى علاقة بجين "كاري موليغان"، لكنه في ذات الوقت يعطف على قط جورفاينز كطفل صغير ويرعبه اختفاءه. جين تطلب من ديفس دفع عملية إجهاض ستقوم بها، وهي ترى أنه شخص غير طموح ولا يتعامل مع الواقع وهو فاشل لهذا السبب، في حين أنه مقتنع بأنها لا ترى في الغناء سوى وظيفة لا غير. يحاول ديفس أن يكسب أي قدر من المال ليدفع ثمن العملية، فيسجل أغنية كوميدية مع جيم تحت عنوان "رجاء سيد كنيدي" Please Mr. Kennedy. وهي أغنية تصور حالة التمرد التي ظهرت في فترة الستينات على الحرب، فالأغنية هي على لسان محارب أمريكي لا يريد الذهاب إلى فيتنام. يتساءل ديفس في استنكار: من كتب كلمات هذه الأغنية، فهي ليست الأسلوب الذي يحب وهو الأسلوب الذي طغى على أغاني الفيلم، ولذلك يرضى سريعاً بأن لا يوضع اسمه على الأسطوانه مقابل أن يأخذ مبلغ 200 دولار نقداً، لكن المفارقة أنها الأغنية الوحيدة التي تعد بالنجاح والانتشار كما أخبره أصدقاء جورفاينز. يستمر ديفس في تلقي خيبات الأمل الواحدة تلو الأخرى، فيرحل إلى شيكاغو، طمعاً في أن يحصل على عقد هناك. في الطريق يلتقي بكاتب أغاني اسمه جوني فايف وموسيقي جاز اسمه رولاند تيرنر (جون جودمان)، يسأل تيرنر ديفس: ماذا تغني؟ فيقول له أغاني شعبية يرد بقوله مستنكراً: ظننت أنك موسيقي!. في شيكاغو يذهب ديفس إلى نادي شهير للموسيقى الشعبية، اسمه Gate of Horn، وهو ناد شهير في الستينات، غنى فيه كبار المغنين، ولكن قد تكون لاسمه دلالة أخرى فGate of Horn أو "بوابة النفير" تحيل إلى الأساطير اليونانية وإلى أوديسة هوميروس حيث تفرق بينيلوبي زوجة أوديسيوس بين بوابة النفير والتي تعبر منها الأحلام الحقيقية وبوابة العاج التي تعبر منها الأحلام الزائفة، لكن ديفس لا يعبر من البوابة إلا إلى قمة اليأس فيقرر العودة إلى البحرية، إلا أنه بعدها بقليل يفاجئ بعودة القط الذي ظن أنه صدمه بالسيارة، وليكتشف أن اسم القط الذي لازمه لفترة طويلة هو "Ulysses" عوليس، وذلك في إشارة أخرى إلى الميثولوجيا. فعوليس هو التحريف اللاتيني لأوديسيوس بطل الأوديسة الذي يجتاز الأهوال والصعاب ويخرج منتصراً. يبقى السؤال: ماذا يقصد إيثان وجويل بهذه الرموز؟ هل يا ترى يقصدان أن الرحلة بقدر ما فيها من الألم، هناك لحظات من الأمل تخترقها ليعود الألم مرة أخرى، وأن ومضات الأمل الصغيرة، هي التي تجعل من يمشي في هذا الطريق مستمراً في عبوره رغم وعورته؟. وهناك أيضاً أمر يستوجب التوقف عنده والتساؤل: وهو ما المقصود من ظهور بوب ديلون قرب النهاية: هل هو تذكير بأسطورة غنائية معينة في تلك الحقبة تحمل معها الأمل؟ أم أن ظهور بوب ديلون هو إشارة للتغيير الذي أحدثه بوب ديلون على الغناء الشعبي الأمريكي والذي يبدو أن بطل الفيلم ديفس متشبث به بشكله القديم وبالتالي فهو لن يتمكن من تحقيق أي نجاح بعد ذلك لأن الزمن ضده. وقد كان ظاهراً بأن لحن أغنية "Fare Thee Well" الذي غناه ديفس مختلف عن اللحن الذي غناه بوب ديلون بعده مباشرة. فهل ديفس يعزف نغمة ليس لها معجبين؟. من الفيلم من يتابع أفلام الأخوين كون يعرف أنهما ليسا ممن يتبع صيغ سهلة أو معتادة، وهو يتمحور حول شخصية خيالية هي مزيج من عدة شخصيات لمطربين تواجدوا في تلك الفترة، وإن كانت الإشارة الأكبر وخاصة في الأغاني هي لديف فان رونك، كذلك فهي شخصية بها قدر من الغموض ولا تحمل أي مواصفات بطولية ككافة شخصيات إيثان وجويل. وهي أيضاً ليست قصة النجاح المبهرة والملهمة، وليست ميلودرامية ولا كوميدية وإنما مزيج من قصة أصيلة، وأغان جميلة تم تسجيلها مباشرة بصوت الممثلين ومعظمها أغان كاملة، وبمشاهد ولقطات مدروسة تحوي جماليات بصرية عالية ومونتاج متميز. هي خلطة من نوع خاص لا يمكن لسوى الأخوين صناعتها.