تضخ حكومتنا العظيمة سيلاً وافراً من الميزانيات السنوية المهولة لكافة وزاراتها وقطاعاتها على اختلاف مسمياتها وخدماتها.. ومع ضخ هذه الحشود من المليارات والأرقام الفلكية تظل تطلعات المواطن تنتظر أثراً وتأثيراً حتى وإن جاء زاحفاً لطموحاته في عالم التنمية الحالمة على أديم وطنه.. لعله يحتفل ذات صباح مع أبنائه وأحفاده بميلاد مشروع سويّ أو تقادم بنية تحتية تعطلت لسنوات عجاف وهي تدور بين مكاتب الوزارات والإدارات! ومع هذه الطموحات الراكضة والأحلام المسافرة.. تحضر هذه المشاريع بطريقة بدائية ومملة.. ومثقلة بالبطء والعشوائية.. وينسحب هذا العبث الصارخ في كل شوارع وطرقات مدننا من البحر إلى الخليج! وهنا في مدينة المطر والغيمة (أبها البهية) استيقظ مواطنوها على مرحلة جديدة من الهدم والتغيير في مساراتها واتجاهاتها.. ومعها اكتفينا بالدعاء والشكر للمسؤولين في أمانتها وعلى رأسهم المهندس إبراهيم الخليل.. واتفقنا بأن هذا الخبير جاء ليسكب تجربته الحافلة بالمنجز والنجاحات لمدينة طالها الصمت الرهيب في مشاريعها منذ سنوات.. وحلمنا معه بأنه سينقلها إلى لوحة مترفة تشبه كبرى المدن السياحية الجبلية في العالم.. وتصالحنا معه رغم أنه استهل مشوار التغيير بتدمير دوار (القصبة) الشهير الذي يحتل جنوبالمدينة بعمر تجاوز الثلاثين عاماً.. وانتظرناه لعله يستعيد بناء هذا (المشهد) التاريخي في زاوية من اتجاهات المكان.. ولكنه استدار بالوعود ومضى..!! وربطنا الأحزمة معه حين انتزع قلوبنا وهو يخندق جسد المدينة الجبلية الفاتنة طولاً وعرضاً بحجة توسيع طرقاتها وتحويل مساراتها بالاتفاق مع مرورها، وبدأت أولى حكاياتها بانتزاع ملكيات عقاراتها واعتماد سياسة الاتجاهات الواحدة.. لفك اختناقاتها المرورية المتباينة.. ولكننا هذه المرة استيقظنا على وابل مخيف من التكدس المروري في كامل شوارعها، وتعالت أصوات زحام المركبات في نفس الشوارع التي شهدت سياسة الاتجاه الواحد! وزادت معاناة المواطن والمقيم مع هذا الالتفاف الجديد الذي أصرت عليه الأمانة والمرور.. وأصبحنا بقدرة قادر نعيش مع ورطة الاحتقان المروري الفاجع.. وكأننا نشهد زحام مدينتي جدة والرياض! وفي عز هذه الورطة الصريحة لمسؤولي الأمانة والمرور في تعديل مسارات قلب المدينة إلى سياسة الاتجاه الواحد.. اقتنعنا بأن صوت المواطن الخبير والمستشرف لخطورة مثل هذه القرارات الارتجالية ليس له المساحة الواعية من الشراكة في الرأي والحوار والإقناع.. واقتنعنا كثيراً بأن أموال الدولة تظل مهدرة وعابثة تمضي بفكر الرأي الأوحد وبالقرار الشخصي الصرف.. بعيداً عن التأني والخطط والدراسات وبعيداً عن إشراك المهندسين الخبراء أصحاب التجارب في مثل تضاريس مدينة جبلية كأبها، والتي كانت تحتاج إلى نقلة نوعية وبطريقة حضارية مدهشة تتجاوز المزاجات الفردية والقرارات المستهلكة والبدائية. ذلك أن مدينة تاريخية مكتظة بالشواهد المعمارية والمدرجات الزراعية والذي طالها الهدم والدمار قبل أربعة عقود.. كان من المهم بألا نكرر خرابها ونمضي في تشويه المدهش من معالمها وإرثها؛ لأنها لا تحتمل هذه الفوضى ولا يمكن أن تعزل وسطها عن مداخلها.. وكنا نحلم بأن يستعيد وهجها الثقافي والسياحي والتاريخي بتكريس الترميم لما تبقى من أحيائها القديمة.. والعمل على تطوير قرية المفتاحة بإنشاء المزيد من البنايات والمعالم التراثية والأثرية حولها وجعلها مدينة إعلامية وثقافية تضم داخل فلكها ومحيطها هذه المؤسسات الفكرية.. وكنا نحلم - كذلك - بتطوير سوق الثلاثاء الأبهاوي الشعبي الشهير الذي يعد واحداً من أهم مقاصد المدينة وحراكها.. وكنا ننتظر بأن تتجه سياسات التغيير لمستقبل المدينة نحو أحيائها الحديثة فلديها المساحات في التعديل والتطوير وتغيير وجه شوارعها بالطريقة التي تشبع اللغة الفردية والارتجالية لدى طوابير المسؤولين في أبها وفي غيرها.. ولكن.. ولكننا آمنا بأن مشاريعنا جاهزة لتمرير القرارات الفردية.. وآمنا بأن المجد الشخصي حتى فيما يتعلق بمستقبل الوطن يعلو ولا يعلا عليه!