كعادتها في كل عام احتضنت درة المدائن (الرياض) المهرجان الوطني للتراث والثقافة "الجنادرية" في نسخته السنوية التاسعة والعشرين. القرية النموذجية المُقامة على أرض المهرجان، بدون سبكٍ للعبارة، أو زخرفتها، تحيط بها الجماليات الآسرة للمشاعر والألباب، فتبدو للقادم إليها لوحة مرسومة بعناية فائقة، لتُحاكي البيئة السعودية القديمة، بجزالة تراثها وموروثها، الشاهد على تاريخ وحياة الآباء والأجداد، في حقبة زمنية غابرة، تمازجت في ثناياها الأصالة، والعراقة، والجذور، مع حضارة وهوية وقِيم هذا الوطن، على امتداد مناطقه ومدنه وقراه. كما تبدو للقادم إليها أكثر إثارة وإمتاعاً، وجمالاً وإبهاراً، في لياليها المتشحة بأضواء القمر، وأنوار النجوم ووهجها، ناهيك عن أضواء المكان. وبعبارة وجيزة " كل ما فيها أبهى من كل ما فيها". تضم القرية التراثية النموذجية بين دفتيها الكثير من المقتنيات، والحِرف والمهن القديمة. ومعارض الصناعات اليدوية، والوطنية. وتُقام فيها العديد من البرامج والأنشطة الثقافية والفنية والشعبية، مثل: الندوات الثقافية "الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية" ومعارض للكتاب، والفنون التشكيلية، والوثائق والصور التاريخية، والعروض المسرحية، والفلكلورية، والرقصات الشعبية، والمسابقات الثقافية، وعروض الفروسية، وسباق الهجن، والألعاب الشعبية.. وما إلى ذلك. ولا يمكن بطبيعة الحال أن يفوت على الزائر تذوق المأكولات الشعبية بمذاقها التقليدي الرائع، وأصنافها المتعددة، ونكهاتها الغنية والمتميزة. الشيء الجميل في هذا المهرجان أنَّه لا يقتصر على عرض الموروث الوطني السعودي فحسب، إذ يحظى بمشاركة فعَّالة من دول مجلس التعاون الخليجي، واستضافة سنوية لدولة صديقة لعرض منتوجها الثقافي. وهذه إضافة مهمة للتعريف بثقافة الآخر، وبناء المزيد من قواعد التأصيل والاحترام للحضارات الإنسانية بتنوعها التراثي والمعرفي. في كل عامٍ، وبعد انتهاء فعاليات وأيام المهرجان، تبادر اللجنة المنظمة مشكورة بدعوة جميع الزائرين والمهتمين بالتراث والثقافة، لتقديم الآراء والمقترحات التي من شأنها تحسين مخرجات المهرجان في العام أو الأعوام القادمة. وهذه مبادرة جدّ إيجابية، تخدم جهود تطوير مهرجان الجنادرية، وتحسين منظومته الإدارية والخدمية والتنظيمية. وقيمته السياحية والمعرفية. ومع كل التقدير للجهود الحثيثة لتطوير مهرجان الجنادرية، وبعد مرور نحو (29) عاماً على انطلاقة فعالياته، فقد آن الأوان - في تقديري - لدراسة فكرة تحويله إلى وجهة سياحية مستدامة. هذه الوجهة السياحية المستدامة يمكن أن تتبلور على هيئة متحف وطني للتراث، متاح للجميع على مدار العام، يتوفر على المرافق المساندة، ماثلة في المطاعم وألعاب الأطفال والمسطحات الخضراء، بما يجعل من كل ذلك مقصدا سياحياً نموذجياً يُضفي المزيد من الأناقة والجمال على مدينة الرياض، وإضافة نوعية في برامج السياحة الداخلية (الوطنية). خاصّة إذا علمنا أن مدينة الرياض تعاني أساساً من نقصٍ واضحٍ في الأماكن والمواقع السياحية. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن هذا المشروع السياحي المقترح سوف يحقق عوائد مالية مجزية بفعّل الإقبال الجماهيري المتوقع عليه، يمكن الاستفادة منها في أعمال الصيانة والتشغيل والتطوير، فضلاً عن توظيف المزيد من الشباب السعودي للعمل في مرافق هذه المنشأة. على كل حال، قد يكون من المناسب والملائم أن تُسند إدارة المتحف والقرية التراثية المتكاملة إلى الهيئة العامة للسياحة والآثار، باعتبارها الجهة المسؤولة عن تحقيق تنمية سياحية قيِّمة ومميزة، ذات منافع اجتماعية وثقافية وبيئية واقتصادية. وبما يتماهى مع أهدف إستراتيجية تنمية السياحة الوطنية، التي أعدتها الهيئة العامة للسياحة والآثار، لبناء قطاع السياحة في المملكة، وتطوير مواقع التنمية السياحية، وتحويل هذا القطاع إلى صناعة رائدة قادرة على تقديم أفضل الخدمات السياحية المفيدة والهادفة والممتعة. ومهرجان الجنادرية يستحق أن يكون ضمن منظومة هذا القطاع الواعد، يتجدد محتواه بالمزيد من الومضات التراثية والإبداعية. شَذْرَة: لَيْس على طَريق النّجاح إشَاراتٌ تُحدّدُ السّرْعَةَ القُصْوَى.