احتضنت درة المدائن "الرياض" في الأيام القليلة الماضية المهرجان الوطني للتراث والثقافة "الجنادرية" في نسخته السنوية الثامنة والعشرين. من أهدافه الرئيسة كما جاء في موقعه الإلكتروني: إيجاد صيغة للتلاحم بين الموروث الشعبي بجميع جوانبه والانجازات الحضارية التي تعيشها المملكة العربية السعودية، والعمل على إزالة الحواجز الوهمية بين الإبداع الأدبي والفني وبين الموروث الشعبي. تشجيع اكتشاف التراث الشعبي وبلورته بالصياغة والتوظيف في أعمال أدبية وفنية ناجحة. العمل على التعريف بالموروث الشعبي بواسطة تمثيل الأدوار والاعتماد على المحسوس حتى تكون الصورة أوضح وأعمق، وإعطاء صورة حية عن الماضي بكل معانية الثقافية والفنية. وفق هذه الأهداف النبيلة تمَّ إنشاء قرية أنموذجية متكاملة للتراث تحاكي البيئة السعودية القديمة، مُثِّلت فيها كل مناطق المملكة، بتراثها وموروثها الغني والمتنوع. واشتملت على منظومة من المعارض التراثية، وآلاف المقتنيات القديمة، ومعارض للصناعات اليدوية، والحرف والمهن القديمة. إضافة إلى المأكولات الشعبية بمذاقها الرائع، ونكهاتها المتميزة. وقد صاحبَ هذه العروض التراثية السنوية إقامة العديد من البرامج والأنشطة الثقافية والفنية والشعبية، لربط الإبداع الوطني المعاصر بأمجاد الآباء والأجداد، لتبقى ماثلة للأجيال والأبناء، وشاهدة على حضارة وهوية تمازجت في ثناياها القِيم الإيمانية مع إبداع الإنسان على امتداد ثرى هذه البلاد المباركة. من أبرز هذه البرامج والأنشطة: الندوات الثقافية للتعريف بالتراث والأدب الشعبي، وصلته بالإبداع الفكري والفني، إضافة إلى موضوعات أخرى فكرية واقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية، بمحيطها المحلي والعربي والدولي. ومن هذه البرامج كذلك: معارض للكتاب، والفنون التشكيلية، والوثائق والصور التاريخية، والعروض المسرحية، والفلكلورية، والرقصات الشعبية، والمسابقات الثقافية، ومسابقات الطفل السعودي، وعروض الفروسية، وسباق الهجن، والألعاب الشعبية، والأزياء والحُلي النسائية القديمة، وأجنحة للصناعات الوطنية.. وما إلى ذلك. وخلال أكثر من عقدين من الزمن تمَّ إضافة العديد من المنشآت، مثل: إنشاء صالة للأنشطة الثقافية، وتوسيع السوق الشعبي، وتحسين منظومة الخدمات الإدارية والتنظيمية المقدمة للضيوف والزوار. والشيء الجميل في هذا المهرجان أنَّه لا يقتصر على عرض الموروث الوطني السعودي فحسب، إذ يحظى بمشاركة فعَّالة من دول مجلس التعاون الخليجي، واستضافة سنوية لدولة صديقة لعرض منتوجها الثقافي. وهذه إضافة مهمة للتعريف بثقافة الآخر، وبناء المزيد من قواعد التأصيل والاحترام للحضارات الإنسانية بتنوعها التراثي والمعرفي. ومع كل التقدير للجهود الحثيثة لتطوير مهرجان الجنادرية، وبعد مرور نحو (28) عاماً على انطلاقة فعالياته، فقد آن الأوان – في تقديري - لدراسة فكرة تحويله إلى وجهة سياحية مستدامة، بمنظومتها البيئية والإدارية والخدمية والتنظيمية المتكاملة. هذه الوجهة السياحية المستدامة يمكن أن تتبلور على هيئة متحف وطني للتراث بكل أنواعه وتنوعه، متاحٌ للجميع على مدار العام، محاطٌ بكل المرافق اللازمة التي تجلب الكثير من السائحين والزوار، وفي مقدمتها: المطاعم وألعاب الأطفال والمسطحات الخضراء، بما يجعل من كل ذلك مقصدا سياحياً أنموذجياً سوف يضفي المزيد من الأناقة والجمال لمدينة الرياض، مثل ما يسهم في توفير المزيد من الأماكن السياحية، التي تخدم برامج السياحة الداخلية (الوطنية). خاصَّة إذا علمنا أنَّ مدينة الرياض تعاني أساساً من نقصٍ واضح في الأماكن والمواقع السياحية المستدامة. كما أنَّه من جهة أخرى، فإنَّ هذا المشروع السياحي سوف يحقق عوائد مالية مجزية (عوائد رسوم الدخول) بفعل الإقبال الجماهيري الكبير على هذه النوعية من البرامج السياحية. ويمكن الاستفادة منها في أعمال الصيانة والتشغيل والتطوير، فضلاً عن توظيف المزيد من الشباب السعودي للعمل في هذه المنشأة السياحية الكبيرة والمهمة. وقد يكون من المناسب والملائم أن تُسند إدارة المتحف والقرية التراثية المتكاملة إلى الهيئة العامة للسياحة والآثار، باعتبارها الجهة المسؤولة عن تحقيق تنمية سياحية قيِّمة ومميزة، ذات منافع اجتماعية وثقافية وبيئية واقتصادية، تأخذ في الاعتبار خصوصية المجتمع السعودي وقيمه الفاضلة التي يعتز بها. على أيَّة حال يُعد مشروع المتحف والقرية التراثية، في مضمونه، ترجمة لبعض أهدف إستراتيجية تنمية السياحة الوطنية، التي أعدتها الهيئة العامة للسياحة والآثار، لبناء قطاع السياحة في المملكة، وتطوير مواقع التنمية السياحية، وتحويل هذا القطاع إلى صناعة رائدة قادرة على تقديم أفضل الخدمات السياحية المفيدة والهادفة والممتعة لكل أفراد الأسرة. كلمة أخيرة: دعا المتحدث الرسمي باسم مهرجان الجنادرية الجميع إلى تقديم الآراء والمقترحات التي من شأنها تحسين مخرجات المهرجان في العام أو الأعوام القادمة. وهذه مبادرة جدّ إيجابية، سوف تتيح للجنة المنظمة الاطلاع على كل الأفكار والمقترحات تباعاً، والاستفادة قدر الإمكان من معطياتها، لصالح تطوير المهرجان وتحسين منظومته الإدارية والخدمية والتنظيمية. كما آمل من اللجنة دراسة المقترح أعلاه من كل جوانبه المادية والإجرائية، وقيمته السياحية والمعرفية العالية. حكمة: لَيْسَ على طَرِيقِ النَّجاحِ إِشَاراتٌ تُحَدِّدُ السُّرْعَةَ القُصْوَى.