غرض الوصف أقرب إلى الفن الخالص من أغراض المدح والهجاء والفخر.. حتى ما يرد في شعر المديح أو الهجاء أو الفخر من أوصاف يعتبر فناً يرضي موهبة الشاعر ويحلق بخياله، وبه - بالوصف - يمتاز مادح عن آخر، وهاج عن هاج، لأن الوصف منبعه الخيال والإبداع، وهو من فنون البلاغة الأصيلة، أما المديح ونحوه فمنبعه التكسب أو التشفي من المهجو وأكثره شعر مصنوع لا يعتمد الشاعر فيه على طبيعته وسجيته الشاعرية ولا تنبع معانيه من قلبه ومشاعره الخالصة بل من مطامعه، ولهذا يرضي الشاعر نفسه ويجامل موهبته باختراع أوصاف مضخمة مبالغ فيها للممدوح.. أو المهجو.. ورغم أن ذلك الوصف في شعر المدح ونحوه مصنوع لغرض مادي إلا أنه أقرب للفن من المدح الفج المباشر، ومع هذا فيوجد في شعر المديح فن صادق إذا كان الشاعر معجباً بالممدوح غاية الإعجاب كما نجد في كثير من مدائح المتنبي لسيف الدولة، وكذلك الهجاء حين يكون عن قناعة راسخة باستحقاق الشخص للهجاء كقصائد المتنبي أيضاً في كافور حين أطلق عليه قذائف الهجاء بشكل فني، وسواء أكان كافور يستحق ذلك الهجاء أم لا، فإن المهم هو شعور المتنبي بأنه يستحق ذلك الهجاء ولهذا تدفق الفن من عبقرية المتنبي في مدح سيف الدولة وفي هجاء كافور الاخشيدي وقدم لنا صوراً بديعة كقوله في كافور: يستخشن الخز حين يلبسه وقد كان يبرى بظفره القلم فقد وصفه بأنه محدث نعمة لا يستحقها فبعد أن كان خشناً قبيحاً موحش المظهر حتى طالت أطفاره واحتدت بحيث صارت كالسكاكين تصلح لبري الأقلام، إذا به يحصل فجأة على نعمة كبرى اغتصبها اغتصاباً فيرفل في الدمقس والحرير ويعتبر الحرير خشناً على جسمه الخشن حقاً فسبحان مغير الأمور والأحوال!.. وفي مدائح المتنبي لسيف الدولة بالذات، نجد الكثير من الفن والإبداع والوصف المحلق، لأن أبا الطيب كان معجباً بسبف الدولة على الحقيقة، معجباً بأصله وشجاعته فضلاً عن كرمه، ومن صور أبي الطيب المتنبي الفنية في مديح سيف الدولة الحمداني قوله: «يهز الجيش حولك جانبيه كما نفضت حناحيها العقاب» وقوله يصف موقف سيف الدولة في معركة ضد الروم: «وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم» على أننا نجد الوصف المبدع الخالص في شعر المتنبي حين أصابته الحمى: «وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي يضيق الجلد عن نفسي وعنها فتوسعه بأنواع السقام إذا ما فارقتني غسلتني كأنا عكفان على حرام كأن الصبح يطردها فتجري مدامعها بأربعة سجام أراقب وقتها من غير شوق مراقبة المشوق المهتام ويصدق وعدها والصدق شر إذا ألقاك في الكرب العظام أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام» وهي طويلة جميلة موجودة كاملة ومشروحة في ديوان المتنبي بشرح الرقوقي (4/272 - 280). *** ومن الوصف المبدع قول الشاعر: «وريح الخزامى من رشها الطل بعدما دنا الليل حتى مسها بالقوادم» فمع رش الطل أزهار الخزامى نصوع عطرها حتى يكاد يلمس!!.. ويقول ابن الرومي في وصل أحدب: «قصرت أخادعه وغار قذاله فكأنه متربص أن يصفعا وكأنما صفعت قفاه مرة وأحس ثانية لها فتجمعا!» قلت: ما أشد أنطباق هذا الوصف على المثقف العربي! *** ومن الوصف البليغ في شعرنا الشعبي قول بركات الشريف يصف شدة الحر من قصيدة طويلة: «إذا نبحتنا من قريب كلابه ودبت من البغضا علينا عقاربه نحوناه باكوار المطايا ويممت بنا صوب حزم صارخات ثعالبه بيوم من الجوزا يستوقد الحصى وتلوذ باعضاد المطايا جخادبه» فالحصا يشتعل نادراً والجخادب (صغار الجراد) تبحث عن الظل تحت المطايا.. وفي البيت الأول كناية رائعة، والكناية من أكثر فنون الوصف بلاغة. ويقول حميدان الشويعر واصفاً أهمية المال عند عامة الناس: «المال لو هو عند عنز شيورت وقيل يا أم قرين وين المنزل؟!» ومثله من الشعر الفصيح: «ولو لبس الحمار ثياب خز لقال الناس: يا له من حمار!» ويقول شاعرنا الكليف، وهو من مشاهير شعراء القرن الحادي عشر، والأبيات موضع الاستشهاد من قصيدة طويلة رائعة حتى أسموها (الدامغة): «والدار شروى زينة معشوقة كل البرايا مشتهين وصالها إن حازها بعل غيور زانها في موضع ما حازها من نالها أو فاتها البعل الغيور تلطمت بعد الجمال الزين بارزاً حالها»