الركض في مضمار الكتابة، يشبه الركض في مضمار الحياة، أشياء متعبة ومرهقة قد تحدث للكاتب، سلسلة من الأزمات تنال بأظافرها من قلبه وذاكرته ووقته، إلا أن البعض يتصور بأنها عملية مريحة للغاية ولا ترسل لفاعلها أي جرعة من الآلام والمتاعب، حتى أن البعض يتصور بأنك عندما تريد أن تصنع ورقة مليئة وثمينة بالكلمات فليس عليك سوى أن تحتسي كوباً من القهوة وتشعل سيجارة بنوع من التأمل. وهكذا بكل بساطة تصبح كاتباً، تصبح كاتباً بهذه الطريقة الساذجة وتتساقط عليك الرؤى والأحلام والأسئلة الكبرى المقلقة للبشرية، لكن للأسف هذا التصور البسيط لم ينجح مع الكثير ممن استخدموا هذا الأسلوب، فشلوا وسقطوا في مدن الصمت والإحساس بالعجز، سقطوا منذ الصافرة الأولى للانطلاق في مضمار الكتابة، فالكثير من الشعراء والأدباء صوروا معاناتهم مع الكتابة بكلمات موجزة تحمل عوالم واسعة من الدلالة، فمثلاً الروائي والموسيقار الإنجليزي دوجلاس آدامز وصف صعوبة عمل الكتابة بسخرية لاذعة حيث قال: "الكتابة عمل سهل جداً، ليس عليك إلا أن تحدق في ورقة بيضاء إلى أن تنزف جبهتك! أيضاً الكاتب العملاق أرنست همنغواي صاحب الرواية الشهيرة "وداعاً أيها السلاح" الرواية التي استحضر فيها ويلات الحروب والدمار واليتم والشعور بالفقد وبموت الإنسان الذي لا زال يشك جزء كبير من المفكرين الغربيين في وجوده أصلاً على المستوى الأخلاقي، حين سألوا أرنست همنغواي عن ماهية الصعوبة التي يواجهها الكاتب عندما يكتب كلاماً يشبهه ويكون مضاداً حيوياً للمآسي التي يحملها بداخله، أجاب عليهم: "ليس هناك صعوبة في الكتابة، تجلس أمام الآلة الطابعة وتبكي بصمت حارق دون أن يعرف أحد ودون حتى أن تعرف أنت! ميلان كونديرا صاحب العمل العالمي " كائن لا تحتمل خفته " والذي استهله بهذه الجملة الغارقة في العمق "لا يمكن الإنسان أبداً أن يدرك ماذا عليه أن يفعل؛ لأنه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة" بدأها بهذه الجملة وجمل أخرى مليئة بالتأملات الفلسفية والومضات اللاوعية التي تكفي لاستيعاب الخسارات التي على الكاتب أن يدفعها. لقد قال ميلان كونديرا في إحدى الأيام متحدثاً عن صناعة الكتابة وعوالمها بما يلي :" كي يكتب الكاتب عليه أن يهدم بيت حياته كي يصنع لعائلته بيتاً جديداً بيت روايته!" أي أنها - أي الكتابة - بيتٌ لا للسكنى بل للحياة ذات النوع المختلف، ذات النوع الذي عليك أن تخسر حياتك العائلية والاجتماعية والقائمة سواءً كانت طويلة أو قصيرة من أصدقائك، وتهدم كل الذكريات التي صنعتها معهم ليس عن قصد وإنما لهدف بناء آخر لا يشعر به إلا أنت، إلا من يعرف يقيناً بأن اللغة هي السر الوحيد كي نبقى على قيد استقرارنا النفسي وتوازننا العقلي". لا يمكن أن نتحدث عن الكتابة - أيضاً - ونتجاهل سامرغوا الحائز على جائزة نوبل للآداب تقديراً لروايته "العمى" التي قدم فيها رسالة إنسانية عميقة تعطينا رسالة مفادها بأن العلاقات الروحية الصادقة هي الأقدر على مواجهة الصعوبات والكوارث الطبيعية، ساراماغو في أحد الحوارات كان رده على ذلك: "الكتابة هي الطريقة الوحيدة كي نخبر العالم والناس والكون بأننا نعيش في هذا العالم المشؤوم، كي نخبرهم بأن التفاؤل هو شكل من أشكال البلاهة وينم عن انعدام الإحساس بشكل فظيع !" بجانب هؤلاء الذين أنفقوا حياتهم في رسم الكلمات والبحث الشاق عنها نجد "بول أوستر" الكاتب الأمريكي وصاحب الأعمال الروائية ذات الطابع البوليسي والشغوف بترجمة الشعر من اللغات الأخرى يقول معللاً وراء لجوئه للكتابة: "أكتب لأني لا زلت لغزاً لذاتي، بالكتابة أحتفظ بالقدرة على مفآجآة نفسي من حين إلى آخر، اللغة بالنسبة إليّ محض أداة، إنها الأداة الوحيدة التي أملكها لفهم العالم". أما عربياً فقد تحدث الشاعر العراقي قاسم حداد عن هذا الطريق المتعب والوعر والمليء بالتعرجات والانحناءات بمقولته الشهيرة: "نكتب؛ لأن الكتابة هي شرفتنا الوحيدة في حياة شَحَّت فيها السبل والآفاق التي تمنح الإنسان الشعور العميق بحب الحياة" بينما الماغوط صديق الفقراء، الإنسان الذي لا يشعر بالحياة إلا في المقاهي الشعبية وبين رائحة الكادحين وليس بين رائحة العطور الباريسية والأجساد التي تملك المبالغ البنكية الضخمة فقد قال: "عالمي هو الكتابة، أنا خارج دفاتري أضيع، دفاتري وطني، دفاتري وطني هل تفهمون؟" وبما أن الحديث عن الشعر والشعراء وسبرهم لأغوار الكتابة والبذل في الحفاظ على قيمتها مهما كانت المغريات فقد بيّن أمل دنقل أو شاعر دعا دعا العرب إلى حالة ألا سلم إبان معاهدة كامب ديفيد بأنهم لو خيروه بين الملك والكتابة فإنه سيختار الكتابة، فقد أعلن في إحدى قصائده قائلاً: "ملك أم كتابة؟ صاح بي .. فانتبهت، ورفت ذبابه .. حول عينين لامعتين...فقلت "الكتابة" .. فقلت "الكتابة". إن للكتابة قدرة على أن تمنحنا إمكانية التحكم في الزمن، القدرة على إرجاعه ومقاومة نسيانه، فالكاتبة والروائية الصينية "آمي تان" أشارت إلى ذلك بقولها: " أنا في غاية الصغر عندما أكتب، أسافر لأزمنة مختلفة دون أن يراقبني أحد!" لا تقف معجزة الكتابة عند هذا الحد بل إنها تساعدنا على شرحنا لذواتنا ف "آرمستد ماوبين " قال يوماً : "أكتب لأترجم نفسي لنفسي، إنها وسيلة لفهم مصائبي، وترتيب بعثرة الحياة، لأمنحها الاتساق والمعنى". وفي الذهاب إلى الضفة الأخرى، إلى الضفة المتعلقة بطقوس الكتابة وأهم وصايا الكتّاب فلعل من أبرزها ما كتبه أرنست همنغواي حيث قال :" لا تبحث عن طقس معين، اذهب مع الفكرة، لا تفكر ما الذي سيحدث، توحد معها، أشعرها بأن لديك كماً هائلاً من الإستعداد بأن تموت من أجلها، حتى لو كان لديك فقط ثانيتين من الحياة وأتت إليك الفكرة فاستقبلها لتبعث إليها حياة أوسع من ثانيتين!"، أما هنري تشارلز الشاعر المتشائم بدرجة عالية من الإنسانية فقد وصف الطقوس بأنها حالة من الصناعة الكاذبة حيث إنها بالدرجة الأولى عملية اختيار إلهي وليس للأمكنة القدرة التي تمنحنا ذلك!"