اقتحم الساحة الروائية السعودية عدد ممن كتبوا رواية يتيمة، وآثروا بعدها الابتعاد، ولم يظهر لهم نشاط آخر، ما أثار تساؤلات عديدة لدى المتلقي السعودي المهتم بهذا اللون من الأدب. بعض أصحاب الاختصاص من النقاد والكتاب وصفوا الرواية اليتيمة بأنها مجرد أداة تعبير عن أزمات شخصية، أو اجتماعية، ومنهم من رأى أنها مجرد سرد ذكريات، أو كتابة مذكرات، أو آراء شخصية في قضية ما، ووجدوا في الرواية مجالاً للتعبير عنها. وهنالك من رأى في ذلك شيئاً غير نادر، مستشهداً بتجارب عالمية، مثل “خوان رولفو” ورائعته اليتيمة “بيدرو بارامو”، ومنهم من رمى باللوم على الوضع العام، ووصفه بالرديء، وأنه يدفع نحو الإحباط من كل جهة، بهامشيته، وهامشية أثره.
ليست ظاهرة قال القاص والناقد سعيد الأحمد “في البداية، تكرار الفعل، أو عدم تكراره، لا يمنح صفة الروائي لكاتب ركيك، ولا ينتزع المسمى من كاتب رواية واحدة فقط، إنْ كان ماهراً ومتمكناً من فنه”. وأضاف: “خوان رولفو” لم يكتب سوى رواية واحدة اعتبرها ماركيز مدرسته التي استمد منها تصوراته حول الرواية. ومع ذلك قد يختلف الأمر لدينا، محلياً حيث وظفت الرواية في مشهدنا المحلي، في العقدين الأخيرين، كأداة تعبير عن أزمات شخصية، أو اجتماعية، في صورة جنس كتابي يتعرض لمحاكمة فكرية، أو أخلاقية، بشكل أقل حدة من الأجناس الكتابية المباشرة، ناهيك عن مساحة الضوء التي أصبحت تحظى بها الرواية، وتجتذب محبي الأضواء من قليلين، أو حتى عديمي الدراية والقدرة الفنية، وذلك من شأنه أن يدفع بأسماء عدة داخل الساحة بأعمال وحيدة وفقيرة، وبمخزون معرفي وحكائي لا يؤهل كاتبها لتكرار التجربة، وهنالك على الجانب آخر كتابات السير التي صنفت على أنها أعمال روائية، وهنالك عدد ليس قليل من كتابها لا يمتلك سوى هذه التجربة ليقتحم بها أرفف المكتبات”.
القضية ليست الرواية أما الأديب والكاتب سعد البواردي، فيقول “من ناحية المبدأ، خير أن تصوم على أجر من أن تفطر على خطأ، والقضية ليست الرواية، أو القصة، أو الشعر، أو ما شابه من الفنون، المهم أن لا نطرح الأشياء ونتوقف، وأن ندرك لماذا توقفنا، وما هي القناعات التي أدت إلى هذا التوقف. قد يكون من الحكمة أن تصوم عن عمل قدمته، ولا ترضى عنه، لكن لا تقرر خطأ ذلك بقناعة منفردة منك”. وأضاف البواردي “إذا قدم أحدهم رواية أشبعت لديه الرغبة في أن يستمر، فإن صياماً في مثل هذا الموقف يعتبر تراجعاً عن أداء الرسالة التي يؤديها. وحينما يُقدِم الروائي، أو الكاتب، أو الشاعر، على عمل، ويرى أنه لا يشبع رغبته، أو أنه لم يستطع أن يقدم هذه الثمرة الفكرية الناضجة، فهو أدرى بنفسه، ويجب أن لا نستعجل الأحكام، وإنما نتلمس الأسباب التي يأخذ بها الكاتب، أو الروائي، وأن نرفق بحاله، وأحياناً قد يجد ذلك الروائي، أو الكاتب، أنه لم يقدم جديداً، ولن يعطي الإضافة، وبالتالي الصيام عن المواصلة، أو الكتابة حكمة”. من جانبه، يقول الناقد الدكتور سعيد السريحي “يزعم بعض النقاد أن بإمكان كل مبدع أن يكتب رواية واحدة يستعيد من خلالها تجربته، سواء كانت على المستوى الشخصي، أو على مستوى المعايشة للحياة. ومن هنا، فإن القدرة على استكشاف آفاق جديدة للكتابة يتجاوز بها الروائي ما وقر في نفسه من تجارب هو المحك الذي يمكنه من إصدار رواية ثانية، أو ما يتلوها من روايات”.
أسباب مختلفة إلى ذلك، تحدث الروائي يوسف المحيميد قائلاً “لا شك أن أسباب التوقف تختلف بين كاتب وآخر، فهنالك من يظن أنه حقق ما يريد برواية واحدة، وهنالك من يشعر بخذلان من عدم تحقق أحلامه منذ الكتاب أو الرواية الأولى. وكلاهما مخطئ، فمن يكتب عليه ألا ينتظر شيئاً من الكتابة سوى ردم هوة الشغف في قلبه”. وأضاف “أعتقد أن من كتب رواية واحدة، ثم كف عن الكتابة، هو ممن لم يدخل الكتابة كمشروع مكتمل ومتواصل، ولم يضع مشروعاته الروائية في قائمة الانتظار كي يشرع في عمل جديد كلما أنجز العمل الذي بين يديه. الكتابة هي فعل يومي، إنْ لم يكن لحظياً، ومن يتوقف طويلاً يحتاج إلى مران طويل كي يعود، مثله مثل لاعب الكرة، ولياقة الكاتب هي في الكلمات والجمل والصياغة، وكلما ابتعد عنها فقد حساسيته العالية تجاه الكتابة”.
صناعة نجوم وتقول الكاتبة والإعلامية بدرية البشر “أعتقد أن مفهوم الرواية الواحدة هذا، كان شائعاً في الثمانينيات، حين كانت الرواية تعاني عزوفاً، ولا تجد لها جمهوراً، اليوم وبفعل التحولات الجديدة وتداعيات وسائل العولمة، وتحول العالم إلى قرية صغيرة، طرأ تحول أدبي كبير على العرب، هو التحول من الشعر إلى الرواية، وأصبحت الرواية هي ديوان العرب، وانهزمت القبضات الرقابية بسبب الانفتاح الفضائي، ولم يعد أحد يقف عند الرواية الواحدة. هذا إذا تحدثنا بشكل عام، فاليوم أصبحت كتابة الرواية مغرية ومشجعة بسبب جمهورها الكبير من الشباب، الذي يسهل عليه هضم معظم الأشياء الجديدة والحديثة، ولقدرته على التواجد في الفضاءات، وترويج الحكايات، وكل ما تصل إليه يداه”.وزادت البشر بالقول “الرواية اليوم أصبحت هدفاً للمؤرخين والنقاد والشعراء والقاصين، الذين تحولوا إلى روائيين، لأن الرواية أصبحت ذات جمهور عريض، يشتري ويقرأ ويصنع النجوم. وبغض النظر عن تزايد أعداد من يكتب الرواية، وعن أهداف كتابة الرواية، أصبح مضمار كتابة الرواية كالماراثون، يدخله ألف متسابق، قد لا يفوز منهم، أو يستمر، سوى قلة قليلة. هذه هي الحقيقة الجديدة التي يجب التعامل معها، وترك أسطورة الرواية الواحدة، والكتاب الواحد، لأنه وببساطة طالما أن هنالك مستهلكاً فإن السوق سينفتح على مصراعيه. ولأن الفن الإبداعي مثله مثل كل مجهود إنساني وسلعي، ينتعش طالما أن هنالك من يتعاطاه ويتفاعل معه”.
هامشية الأثر ويرى الشاعر والقاص عبدالله ثابت أن هنالك أسباباً تتعلق بالكاتب نفسه من جهة، فلكل كاتب أسبابه التي تختلف عن الآخر. ومن جهة أخرى، هنالك أسباب تتعلق بالوسط العام، سياسياً،وثقافياً، واجتماعياً.. إلخ. وقال ثابت، “في ما يخص الكاتب، في الغالب يكون السبب المشترك وراء العزوف عن تكرار التجربة، هو موقف الكاتب الداخلي من سؤال الجدوى، وأظن أن سؤال الجدوى هذا يلاحق كل من يكتب، لكنه يستحوذ على بعضهم حتى يعطلهم عن الإنتاج، وكلامي هذا مجرد فكرة ومحاولة للفهم، وقد لا يكون صحيحاً”.وأضاف “أما الأسباب التي تتعلق بالوسط المحيط، بكامل تنوعه، فأقول وبيقين إن رداءة الوضع العام تدفع نحو الإحباط، حيث يشعر ويرى المؤلف، من كل جهة، هامشيته وهامشية أثره. مثلاً؛ بينما لاعبو الكرة والمطربون تنهال عليهم العقود بالملايين، ويحصلون على التقدير والتكريم والضوء، ويكون الكاتب مُبعداً ومتهماً وهامشياً، غارقاً في مطاردة حياته ورزقه. أن تكون كاتباً في البلدان العربية فذلك يعني كثيراً من الهمّ والقلق والإحباط والحاجة، وهذه حال تكسر الأقلام والكرامات والمعنى”.
رهبة التجربة ومن جهتها، تقول الشاعرة والكاتبة حليمة مظفر “قد تكون هنالك أسباب تعود للأشخاص أنفسهم، وقد يكون هنالك من لديه رهبة التجربة الأولى، من حيث أن أعمالهم الأولى حققت صدى ونجاحاً كبيراً في الساحة، وبالتالي قد يكون الإقدام على طرح التجربة الثانية من الرواية، أو من الأعمال الروائية، يشكل هاجساً من أن لا تلقى الصدى الذي حققته الرواية الأولى، ولهذا ربما يترددون من طرح تجاربهم، ولكن لا ينطبق هذا الرأي على الجميع، فحتماً هنالك من يكتفي بالتجربة الأولى، لأنه قد يكون ممتلكاً لمرونة الخيال الروائي الذي يمكِّنه من كتابة رواية أخرى”. وتضيف “هذا إلى جانب وجود من يستسهل كتابة العمل الروائي، خاصة في مرحلة الطفرة الروائية التي مررنا بها، ما أدى إلى أن يخرج بعضهم بهذه الأعمال الروائية، وربما تكون الأخيرة، وقد نتفاجأ بأن يخرجوا لنا بكتب أخرى تتماشى مع الطفرة المقبلة. وأرى أن الرواية ليست مجرد سرد ذكريات، أو كتابة مذكرات، أو آراء شخصية في قضية ما، ويجد في الرواية محلاً لتنفيسها، وإنما العمل الروائي هو عمل يتكئ على فلسفة حياة. ومع الأسف نجد بأن عدداً غير قليل من الروايات التي خرجت لم تتجاوز واقعية الحياة التي نعيشها، وكأنها توثيق لحياتنا. ما يحتاجه المتلقي هو تقديم تفسيرات لهذا الواقع، من منطلق فلسفي، وليس مجرد نقل ما يشاهده في حياته، وهنا تكمن الصعوبة، والتحدي للروائي الحقيقي”.