اللغة إشارة الوجود، وحقيقة المعرفة، وفعل الإرادة أياً كانت.. لكن اللغة العربية تتميز كذلك بأنها لغة الحق ودلال التعبير معاً.. مصادرها القرآن أولاً وهو كلام معجز بنظمه لا بأحكامه كما يقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه (الإعجاز القرآني).. ثم ماقالته العرب قبله وبعده وما تنزّل عليهم إلا لتباهيهم بلغتهم، وعظمتهم بشعرائهم وخطبائهم فهم أهل فصاحة وخطابة ومنهم ينسج القول تاريخه واللغة بنيتها ويأتي ثالث مصادرها المجاز وهو المبحث الأثرى الذي يحفظ للغة نموّها وتكاثرها وتعدد دلالاتها ويعدّ واحداً من أهم مايميزها.. فهذا المجاز يميت نفسه ليحيا من جديد فتتماهى اللغة بذلك مع تطوّر الدلالات وحيثيات التعبير على مرّ العصور.. فضلاً من أن هذا المجاز غالباً مايكون حوار الوجدان وأحاديث الروح على أيدي الشعراء والفلاسفة... إذن فنحن بين يدي لغة حتى وإن تغرّبنا فيها كما يبدو للبعض أحياناً، تجمعنا تحت شجرة القصيدة حينما يولد الشعراء في كل مرة يبحثون عن أفق آخر للكلام يبنون فيه المعاني التي لم تطرق من قبل ولا سبيل لهم في ذلك إلا اللغة حينما أُلقيت المعاني على الطريق قبل أكثر من ألف عامٍ كما قال الجاحظ، وعن مساحات من الرؤيا تصعد إليها هذه اللغة القادرة والشعرية بطبعها، أو حتى في ظلال خطبة تصنع التاريخ فتتداعاها الذاكرة كل حين وتتوخّاها الأحداث ذات احتياج.. وتظلّ دائماً تكثر وتزدهر وتفترّ على مدى الأيام..حيث يولد الشعراء فينا ولو بعد حين، ويدرك الكتاب نمو لغتهم فينمون معها، ويأخذنا الإعلام الناضج إلى تراكيب لغوية جديدة تنمو داخلنا دون أن نستشعرها.. نحن أهل لغة لايعتريها الجمود إلا حينما نتجمّد دون الإيمان بها.. ولانسقط من شأنها إلا لنبرّر عجزنا نحن عن حملها لحضارات اللغات الأخرى.. فكل نقص في اللغة إن كان لم يكن لولا أننا أمة تأخّرت عن الأمم الأخرى في العلم والمعرفة ومع هذا حفظت هذه اللغة تقدّمهم ولو على مستوى التعبير ولا يمكنها فعل أكثر من هذا حتى لو تحوّلت إلى تهمةٍ وخطيئة حينما قيل في عصرٍ ما (إن العرب ظاهرة صوتية).. تحيا لغتنا ونحيا بها حينما عجزنا من أن نكون غيرها..!