وراء كل عمل اهتمام ممن قام به وارتباط به، وقد يكون هذا الارتباط بدافع العاطفة أو الهواية أو حب تحقيق فائدة مادية أو تواجد اجتماعي أو إحياء لبعض مواقف قديمة في الذاكرة أو تذكر لأيام الطفولة أو تقليد للآخرين في شأن من الشؤون وغير ذلك من الدوافع والمحفزات التي تجعل بعضنا يهتم بشيء نادر أحياناً ويبذل قصارى جهده في تحقيق نجاح حوله وإبرازه، وقد لا نجد مردودا ملموسا يقنع بصرف الجهد ناحيته، ومن ذلك، الاهتمام بالموروث وبالمتحف التراثي ومقتنياته والحرص على جمعها وتصنيفها وعرضها والمحافظة عليها وتعهد متابعتها. فعندما نقابل صاحب متحف شخصي نلاحظ الارتباط العاطفي والشعور بالقرب النفسي والإحساس بينه وبين مقتنيات المتحف الخاص به، ونلاحظ اهتمامه بالمقتنيات وكأنها جزء منه وقطعة من جسده، يراقب حركة اليدين حولها ويرفق بلمسها ويحاول حمايتها ممن يحاول الاقتراب منها. هي عنده أغلى من المال، ونقدر له الاهتمام بها فهي بالنسبة له ومن يقدر المقتنيات الأثرية ذات قيمة تاريخية مهمة، وإن أي عبث بها يعد خسارة لا تعوض خاصة فيما ندر منها ولا بديل عنه. إن المتاحف الشخصية امتداد للمتاحف العامة والوطنية الأشمل وهي بلا شك نقطة تجمع الموروث الذي تفرق هنا وهناك ولا يمكن معرفة أين هو إلا من خلال نقاط التجمع تلك، لهذا تشكل المتاحف الشخصية في مجموعها من أهم الروافد لمجموعة التراث والموروث الشعبي أيضا، فقد يتوفر فيها ما لا يتوفر في المتاحف الأكبر منها. في زيارة لمتحف الأستاذ: عبد العزيز بن سعد الخراشي، في منزله في الرياض يتضح أن هناك اهتماماً كبيراً يقوم به حول التراث بنوعيه المادي والمعنوي الثقافي والفكري، يماثل اهتمام العديد ممن تخصصوا في هذا الشأن ويعشقون التراث ويحبون الموروث ويهتمون به. لم يقتصر الخراشي على جمع عينات من التراث المادي فقط كما هو المعتاد من أصحاب المتاحف، وإنما اهتم ايضا بالموروث الثقافي والفكري فكان منذ ما يزيد على أربعين سنة كما يقول وكما هو واضح من عينات ونسخ الصحف والمجلات التي يحتفظ بها، مهتما بذلك، يميل إلى تكوين ركن تراثي وأرشيف يحفظ من خلاله بعض العينات المهمة فهو منذ القديم لا يفرط فيما قرأه وتابعة من مجلة أو جريدة أو نشرة إلا ويحتفظ بنسخة منه. بالإضافة إلى تسجيل فيديو توضيحي لمحتويات المتحف. ولم نجد متحفاً شخصيا وإلا وهو يضم تنوعاً داخله وهذا التنوع يشمل جوانب الحياة الماضية التي نحن امتداد لها. فهي تضم عينات عديدة قد تصنف وفق اشتراكها في المناشط أو تكون متفرقة بحسب رؤية صاحب المتحف. ومما يؤكد أحقيتهم بالرعاية والدعاية والاهتمام والتحفيز وبذل الكثير لهم من أجل بذل المزيد من الاهتمام بهوايتهم، أنهم يقومون بدور فاعل وكأنهم في مجموعهم التطوعية تلك مؤسسة تاريخية تراثية سياحية تخدم هذا الجانب بالمجان لمجرد أن يحبوا هذا الفن، فهم يحتفظون طواعية وشوقاً بسجل الأمس حياً يقرأه المتخصصون ويشد انتباه البقية ممن يزور تلك المتحف. ولو عدنا إلى الأمس القريب والذي لا يتعدى ثلاثين أو أربعين سنة فسوف نلاحظ قلة الاهتمام أو حتى انعدام من يهوى جمع التراث وإنشاء المتاحف الشخصية، وأن قرى كثيرة ومدناً لا نجد فيها شخصا واحداً يعنيه الاحتفاظ بالتراث والموروث المادي خاصة، وبالتالي فوضع اليوم مختلف حيث تشهد الساحة الاجتماعية العامة اقبالا منقطع النظير. ويبدو أن المجتمع في السابق ليس لديه إمكانية العصر الحالي، والمساحة المكانية وأيضا القدرة المادية فهو مشغول بالضروريات الحياتية، وأيضا موروث الأمس لديه هي نفسها أدوات الحاضر عنده فكان يستخدم المتاح له من أدوات هي في الواقع إرثه القديم ممن سبق وأدوات جيل مضى فلا اختلافات تذكر بين ما استخدمه أجداده وبين ما يستخدمه هو وما تتطلبه الحياة، والفوارق في السابق بين الأجيال في أدواتها وأسلوب حياتها متقاربة لا يوجد بينها ذاك التباين الملحوظ، بل إن الجيل بكامله وما معه وأسلوب حياته يندمج ويتداخل مع الجيل الآخر الذي يليه أو الذي قبله بمرونة في كل وسائله وأساليبه من دون خط فاصل يمكن تمييزه، ولهذا فإن بقية من أدوات العصر القديم والحجري كمثال استمرت منذ القديم عابرة كل الأزمنة بطولها وامتدادها إلى أن وصلت إلى قرب العصر الذي نحن نعيشه الآن ونسميه الحديث أو الجديد المعاصر وتتمثل في بعض المصنوعات الجلدية كالقرب، والأواني النحاسية كالقدور والأدوات الحجرية مثل القرو، والنقيرة، والمنحاز، وكذا الفخارية كالجرة والزير، والصوفية كالعباءات والفرش، وكلها مصنوعات من المتاح في البيئة وبعضها كما هو ملاحظ قطع حجرية منحوتة يحفظ فيها الماء أو يدق فيها بعض الغلال والأشياء. إن أصحاب المتاحف الشخصية يجدون في رؤية مقتنيات ومحتويات متاحفهم بقاء لذكرى أجدادهم وأيضا طفولتهم وحياتهم التي لم يعد يرى منها شيئاً مما حولهم، في وقت يجذبهم الحنين إليها وإلى أشخاص كانوا معهم. إن أصحاب المتاحف التراثية الشخصية بهذا التوجه من النشأة، يعتبرون هواة في الغالب كبداية ولا أقول متخصصين، وهناك فرق كبير بين الهاوي والمتخصص فليس كل من يهوى الشيء ويحبه متخصص فيه ولا كل متخصص هاو ولكن قد يوجد هواة متخصصون. مثل هؤلاء الذين شغفهم حب التراث خاصة وتعلقوا به أعطوه جل اهتمامهم وتتبعوه وجمعوه من كل مكان حولهم، يبحثون عنه في محلات بيع الأثاث المستعمل وفي المزادات التي تقام ويتهادون القطع التراثية. ويستوقفهم كل ما يمت للماضي بصلة، وذلك لأنهم مدفوعين ناحيته من داخلهم ومن إحساسهم ومن حبهم لقصتهم معه وقصته معهم، إما لكونهم يتذكرون أيام الصبا والطفولة وحياة أهلهم ومعيشتهم السابقة، وإما لأنهم يرون في الماضي بساطة الحياة وأسلوبها المحبب الذي رحل ويتمنون بقاء طرف منه وشيء مما يذكر الجيل به؛ ولأن مثل هذا التمازج عاطفيا بينهم وبينه يستشعرون من خلاله أنه لا يزال باقياً، ويجدون أنفسهم منقادة طواعية لهواية جمع التراث. ونختم بتساؤل حول تلك المتحف: ما مصير هذه المتاحف الشخصية من خلال استشراف مستقبلها من واقع اهتمام الجيل الحالي عموما، وأولاد أصحاب تلك المتاحف على وجه الخصوص، وهل لهم الاهتمام نفسه أم أنهم أقرب إلى العزوف عنها، ويتبين من خلال إجابة العديد من أصحاب المتاحف أن أولادهم لا يهتمون كثيرا بالتراث اهتمام أصحابها الذين جمعوا مقتنياتها، وإن كانوا لا يرفضون تلك المتاحف ولا ينكرون أهميتها ولكنهم يحملون اهتمامات أخرى خاصة بأشياء أقرب إلى واقعهم المعاصر وليس من ضمنها ذلك التراث القديم، مع أنهم شغوفون بالماضي وكل إيجابياته وينتمون لأصالته. وعلى هذا تكون المتاحف الشخصية التي صرف أصحابها كثيرا من الجهد والمال في سبيل المحافظة عليها، عرضة للضياع وإعادة تفريق محتوياتها بعد غياب صاحبها الذي ظل طوال حياته يتابع جمعها وترتيبها ومراعاة سلامتها. ويتوجب علينا القيام بجراء إيجابي حولها، يضمن الاحتفاظ بها والانتفاع بها أيضا مثل ضمها في متحف مركزي عام أو إقليمي يستقبل ولو بعض مقتنيات المتاحف الشخصية التي قد يهددها الضياع، وتكون في ركن تحت اسم صاحبها تحكي قصته مع التراث ومساهمته فيه، تكون في مأمن من العبث وتشكل خطوة ختامية هي في الواقع مكسب لنا، وحفظ لجهد صاحب المتحف، وراحة له عندما يجد نفسه في حاجة لأن ينضم مع بقية أصحاب المتاحف، كما أن مثل هذا العمل المركزي أكثر تكاملا من التفرق الحاصل اليوم والمكرر. وقبل الأخير نوجه دعوة لمن يهمه أمر المتاحف التراثية الشخصية، القيام بتنظيم يكفل تسجيل المتاحف الشخصية أيا كان حجمها لكي تحقق التعاون والتلاقي بين أصحابها ويسهل الوصول إليها من خلال التعريف بها بدل أن تكون موجودة وغير مستفاد منها، وفي النهاية هي مكسب كبير لنا فقد أعفانا أصحابها من معاناة تتبع التراث ووفرت علينا المال والجهد لكن بشرط التعرف عليها.