المتاحف الشخصية تعد ارتباطا عاطفياً بالأمس، أو لهذا السبب نشأت ومتى ما خمدت هذه العاطفة أو قل تأثيرها فربما انتهت تلك المتاحف، وأما تشجيعها فإنه الوقود الذي يدفعها إلى الاستمرار، أما أهميتها فهي بلا شك تمثل ذاكرة تاريخية وميراثا شعبيا وسجلا من العينات، ينطق في كل قطعة منه، وتضم العديد من الأدوات الحرفية والتراثية المادية ذات القيم المعنوية الغالية الثمن، سواء صنفت بطريقة متجانسة، أو تم عرضها بأي شكل قد يصعب على الزائر فهمها. وأصحاب هذه المتاحف الشخصية يقومون بدور فاعل وكأنهم في مجموعهم مؤسسة تاريخية تراثية سياحية تخدم هذا الجانب بالمجان وتحتفظ بسجل الأمس حيا يقرؤه المتخصصون. ولم تكن المتاحف الشخصية التراثية ولا حتى الاهتمام بالتراث موجودا بهذا الشكل الذي تشهده الساحة العامة الاجتماعية اليوم، ولم يكن كائنا فيما مضى بهذه الصورة، ذلك لأن المجتمع في السابق كان يستخدم المتاح له من أدوات هي في الواقع إرثه القديم ممن سبق وأدوات جيل مضى فلا اختلافات تذكر بين ما استخدمه أجداده وبين ما يستخدمه هو وما تتطلبه الحياة، وكانت الفوارق في السابق بين الأجيال في أدواتها وأسلوب حياتها متقارب لا يحمل شيئا من التباين الملحوظ، بل إن الجيل بكامله وما معه يندمج ويتداخل مع الجيل الآخر الذي يليه أو الذي قبله بمرونة في كل وسائله وأساليبه من دون خط فاصل يمكن تمييزه، وبالتالي فإن بقية من أدوات العصر القديم والحجري كمثال استمرت منذ القديم عابرة كل الأزمنة بطولها وامتدادها إلى أن وصلت إلى قرب العصر الذي نحن نعيشه ونسميه الحديث أو الجديد المعاصر وتتمثل في بعض المصنوعات الجلدية كالقرب، والأواني النحاسية كالقدور والأدوات الحجرية مثل القرو، والنقيرة، والمنحاز، وكذا الفخارية كالجرة والزير، والصوفية كالعباءات والفرش، وكلها مصنوعات من المتاح في البيئة وبعضها كما هو ملاحظ قطع حجرية منحوتة يحفظ فيها الماء أو يدق فيها بعض الغلال والأشياء. المتاحف التراثية الشخصية إذا لم تكن محط اهتمام فيما مضى، ولا يتوقع أن توجد مطلقاً، لأن الدكاكين التي تبيع الأدوات وكذا مقتنيات المنازل هي نفسها ذلك التراث، فلا حاجة إذا لوجود متاحف في ذلك الزمن، ولكنها بدأت بوضوح في الآونة الأخيرة، عندما ظهرت وبانت الفوارق والاختلافات بين ما هو معاش أي واقع جديد في المجتمع، وبين ماض غابت شمسه، وتغير أسلوب الحياة بيننا وبينه وتم الاستغناء عن كثير من أدواته لوجود بديل مناسب، وصارت بعض ما ينتمي له غريبة في زمننا هذا مجهولة الاستعمال لطول غربتها عن عصرها المنصرم. عند ذلك بدأت تتكون نواة لمثل هذه المتاحف الشخصية بعدة دوافع أهمها الارتباط والتعلق وهامشي هو التميز، فمن الصعب عاطفياً التخلص من روابط الشخص وماضيه بيسر وسهولة أو التفريط فيها، وهذا سبب من أسباب نشأة المتاحف الشخصية والتعلق بها وتخصيص أماكن لها في المنازل لكونها ذكريات ذات قيمة معنوية عن أصحابها بغض النظر عن المادية. إنهم يجدون في رؤيتها بقاء لطفولتهم وحياتهم التي لم يعد يرى منها شيء في وقت يحنون إليها ويحبون شخوصا كانوا معهم. وهذه المتاحف التراثية الشخصية بهذا التوجه من النشأة، أصحابها هواة في الغالب كبداية ولا أقول متخصصين، وهناك فرق كبير بين الهاوي والمتخصص فليس كل هاو متخصص ولا كل متخصص هاو ولكن قد يوجد هواة متخصصون، ولعله يشار إلى مرحلة لاحقة هي ظهور محترفين متمرسين بعد ذلك مستفيدين من التراث، ويجمع كل هذه الأصناف نهاية تراكم خبرات لديهم عارفين بالتراث وقيمته وتاريخه وماذا يعني. مثل هؤلاء الذين شغفهم حب التراث خاصة وتعلقوا به أعطوه جل اهتمامهم وتتبعوه وجمعوه من كل مكان حولهم، يبحثون عنه في محلات بيع الأثاث المستعمل وفي المزادات التي تقام بين الحين والحين وكذلك ما نسميه (الحراج) الذي عادة تعرض فيه للبيع كل الأدوات القديمة التي يريد أصحابها التخلص منها، كما أنه يستوقفهم كل ما يمت للماضي بصلة، وذلك لأنهم مدفوعين ناحيته من داخلهم ومن إحساسهم ومن حبهم لقصتهم معه وقصته معهم، إما لكونهم يتذكرون أيام الصبا والطفولة وحياة أهلهم ومعيشتهم السابقة، وإما لأنهم يرون في الماضي بساطة الحياة وأسلوبها المحبب الذي رحل ويتمنون بقاء طرف منه وشيء مما يذكر الجيل به؛ ولأن مثل هذا التمازج عاطفيا بينهم وبينه يستشعرونه من خلاله أنه لا يزال باقياً، ويجدونهم منقادين طواعية لهواية جمع التراث. في المعرض الشخصي لأحد الهواة لجمع التراث وهو الأخ الأستاذ: حمد بن سليمان السالم. يقول إنه نشأ تعلقه بالماضي مع طفولته فمنذ الصغر وهو طفل كان يقلد أعمال من حوله سواء العمل في السواني أو غيرها، فكان يحفر حفرة تشبه البئر ويغرس النخيل حولها على هيئة أعواد تمثل الشجر، يسقيها وينظمها كألعاب أطفال، محبة منه لعمل أهله في هذه الأعمال واستمر محباً لكل أدوات الماضي والقديم منها، فهو يقتنيها على سبيل الهواية والتعلق، شغوف بها تمثل عنده شيئا ثمينا. وفي المتحف الشخصي لديه الآن تتزايد مكوناته التراثية من العشرات إلى المئات ومن ثم الآلاف، لتشمل مختلف حياة الأمس وتقدر أعداد المقتنيات بحوالي 3000 قطعة أثرية. وقد جهز المتحف الخاص به في مبنى مستقل يقع في أول القرية التراثية بأشيقر على يمين الداخل، إضافة إلى العديد من القطع في منزله الخاص بحي السويدي بالرياض. وهذا المتحف يتضمن عدة أجنحة، منها جناح الأسلحة، وجناح الحلي، وجناح الملابس والزينة، وجناح أدوات المطبخ، وجناح الأواني والقدور، وجناح الأدوات الحجرية والجيرية والخزف، وجناح الفرش والحصر، والفصل الدراسي القديم وتعليم الكتاتيب مع أدوات الكتابة والمقعد الخشبي والفلكة، والموازين والمكاييل. وجناح الأدوات الزراعية والسواني بتركيبها على نموذجها الطبيعي. وكثير من المقتنيات الأخرى ولعله يعد من أنفس المتاحف الشخصية وأشملها. ما يدلل على تكامل المتاحف الشخصية لدى أصحابها وحرصهم على شمولية تلك المقتنيات لكل جوانب حياة الأمس وكأنهم يمثلونها بترابطها ويضعونها أمام رؤية ونظر الراغب في الاطلاع. ويحق لنا أن نتساءل ونقول: لماذا لم تبرز لدى أجدادنا فكرة المتاحف التراثية الشخصية؟ والجواب بسيط، وهو أنهم لا يجدون لها تلك الأهمية ولا يوجد اختلاف كبير بين حياتهم التي يعيشونها وحياة أجدادهم في أي شيء، وإن كان هناك من فوارق فإنها لا تكاد تذكر. ومنذ أن ظهرت الفوارق الكبيرة بوضوح بين حياة الأمس واليوم بشكل عام وفي الوسائل والمقتنيات والأدوات بشكل أخص، برز التوجه من قبل الهواة وأصحاب المتاحف الشخصية وكذلك من المجتمع بعمومه وبدأ يلاحظ مثل هذا الاهتمام بالمتاحف الشخصية. إن أول الفوارق والأساليب التي حصلت هي إقصاء أدوات كانت تستعمل في وقت سابق وتم الاستغناء عنها بسبب عدم قدرتها على تلبية متطلبات المجتمع، ووجود أخرى أحدث منها تواجدت لتحل محلها، حتى أصبح القديم وبشكل سريع يتوارى إلى الظل متتابعاً ومشكلا تراثاً لا يهتم به إلا القلة ممن تعلق به، و محتفظاً بقصة بل بقصص من تاريخه، هذه القصص لها أثرها في نفوس من عاشوها أو سمعوا بها أو قرؤوها كحكاية جميلة ومنهم أولئك الذين نشأت عندهم فكرة تكوين متاحف شخصية. لعل المهتمين بالمتاحف الشخصية تدفعهم ناحية هوايتهم هذه والتمسك بها عدة أشياء أهمها أنها تربطهم بها ذكريات الأمس، وتشحذ نفوسهم حكايات يتذكرونها مع كل قطعة في متاحفهم، التي هي في الواقع تراث بيئتهم المحلية خاصة، من دون سواها من البيئات، فهم عادة لا يهتمون بشيء خارج أقاليمهم ووطنهم، ويلاحظ على أغلبهم أنه يعني ما يفعله ويتقنه وينتمي إليه ويأنس للحديث عنه ويفهم قصته، وأنهم لا يجمعون التراث وأدواته القديمة تباهياً أو منافسة لآخرين وإنما يحبونه بعمق دون تمثيل. وقبل الختام نريد أن نتبين مصير هذه المتاحف الشخصية من خلال استشراف مستقبلها من واقع اهتمام الجيل الحالي عموما، وأولاد أصحاب تلك المتاحف على وجه الخصوص، وهل لهم الاهتمام نفسه أم أنهم أقرب إلى العزوف عنها، وقد أجاب عن هذا التساؤل صاحب المتحف الشخصي: السالم بقوله: إن أولاده لا يهتمون كثيرا بالتراث اهتمامه به، وإن كانوا لا يرفضونه ولا ينكرون أهميته ولكنهم يحملون اهتماماتهم أخرى خاصة بأشياء أقرب إلى واقعهم ليس من ضمنها ذلك التراث القديم، مع أنهم شغوفون بالماضي وكل إيجابياته ينتمون لأصالته. وعلى هذا تكون المتاحف الشخصية التي صرف أصحابها كثيرا من الجهد والمال في سبيل المحافظة عليها، عرضة للضياع وإعادة تفريق محتوياتها بعد غياب صاحبها الذي ظل طوال حياته يتابع جمعها وترتيبها ومراعاة سلامتها. ويتوجب علينا ضمها في متحف مركزي عام أو إقليمي يستقبل ولو المرحلة النهائية من بعض المتاحف الشخصية التي قد يتهددها الضياع، وتكون في ركن تحت اسم صاحبها تحكي قصته مع التراث، تكون في مأمن من العبث وتشكل خطوة ختامية هي في الواقع مكسب لنا، وحفظ لجهد صاحب المتحف، وراحة له عندما يجد نفسه في حاجة لأن ينضم مع بقية أصحاب المتاحف، كما أن مثل هذا العمل المركزي أكثر تكاملا من التفرق الحاصل اليوم والمكرر. وبالنسبة لتنظيم المتاحف الشخصية فيمكن أن تصنف على عدة فئات بحسب مقتنياتها ومكوناتها وأهميتها ومساحة المكان والاستعداد من صاحبها، بحيث يتضح من التصنيف إمكانية زيارتها والاستفادة منها بالنسبة إلى زائريها ونوعياتهم، لأن الملاحظ أن الزائر سواء كان عربيا أو أجنبياً يزور المتحف الشخصي وليس في مخيلته فكرة عن هذا المتحف أو ذاك، فربما فوجئ بصغر المكان أو محدودية المقتنيات والمحتويات، وفي الوقت نفسه ليس من المناسب وضع المتاحف الشخصية من الناحية التنظيمية في مصف واحد، بل يكون صاحب المتحف مختاراً للفئة التي يريدها كما اختار ابتداءً وبنفسه مقتنيات متحفه ورضي بحجم معين وعدد من المقتنيات لا يريد أكثر منها، ففئة (أ) على سبيل المثال لمتحف مساحته أكبر ولديه قدرة على الترجمة بلغة أخرى ومرشد وشرح لكل قطعة ومداخل ومخارج ووسائل سلامة... الخ. بينما فئة (ب) على سبيل المثال لا يوجد مترجم ولا تعريف بوظيفة كل محتوياته والقطع فيه، وهكذا تتدرج المتاحف إلى عشرة أصناف أو أكثر، وبهذا نضمن وجود تسجيل وإحصاء وتواجد واضح لكل المتاحف خدمة لأصحابها وللمهتمين أيضا بالتراث. وليت كل هذه المتاحف تكون مسجلة بحسب فئاتها، وبين أصحابها تعاون ويسهل الوصول إليها من خلال التعريف بها بدل أن تكون موجودة وغير موجودة، في حين أنها ثمينة جداً وتعفينا من معاناة تتبع التراث وتوفر علينا المال والجهد.