مفهوم (أنتم أعلم بأمور دنياكم) كان حاضراً في عصر الخلافة الراشدة، والأدلة كثيرة، أقربها للذكرى تمثل عمر رضي الله عنه تقديم حجة؛ أن العقل يسبق النقل، ضارباً بها قاعدة (لا اجتهاد بوجود نص)، والنص:كان قرآناً، ليس تفسيراً أو تعديلاً، بل تعطيل وتوقيف، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فقد أفتى بجواز مخالفة النص إذا كان واقع الحياة تجاوزه، والمنطق لم يعد يستقيم معه، فطبق قاعدة المخالفة في سهم المؤلفة قلوبهم النصي في الآية 60 سورة التوبة والقصة معروفة، بفهم أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وانقطاع السبب يوجب إلغاء الحكم.. وهو انبجاس عقلي فقهي بارع لتطبيق مدلولات جوهر الشرع على ضوء ظروف الواقع والعصر، فالظرف انقطع عن حاجة التألف فانقطع الحكم "العطاء المادي".. إنه تمرحل عقلي معرفي يقيس الأمور على أساس ثابت من المصلحة العامة. نحن في عصر غير العصر، والإسلام لا يتنافى مع روح العصر، أي عصر، في كل ما هو إنساني وسمح وعادل، والحضارة أضافت فيما أضافت مفهوماً واسعاً لحقوق الإنسان يضمن الحريات ويجرم التعدي والاعتداء على سيادة الأوطان ومكتسبات المواطنة والحضارة فالانسجام مع العصر وقبول ما يأتي به من قيم تتناسق مع جوهر الإسلام مطلبٌ غاية في أهميته لتحقيق المصلحة، استجابة لظروف الحياة المتغيرة، ففي مقابلة ثابت أمور الدين بمتغير شؤون الحياة لابد وأن يحدث جزء من المخالفة لاستحالة ثبات واقع الحياة المتغير، ومنذ بدء الخلافة الراشدة بدأ التغيير وما فعله عمر أحد الأدلة، غير أن تعقيدات الحياة تفرض أحياناً مخالفات حادة، تتجاوز انقطاع الأسباب عن النتائج، وتبرر فقط باستحالة عدم المخالفة. حدث ذلك في عهد الخلفاء وما تلاه، كما حدث عقب مقتل عمر حين انطلق ابنه عبيدالله وقتل ثلاثة ظنهم متآمرين على مقتل والده، ولم يثبت ذلك في حق أحدٍ منهم، كان أحدهم الهرمزان الذي أسلم وصح إسلامه،، واجه عثمان رضي الله عنه هذا الموقف في بدء ولايته، وكان رأي الدين فيه واضحاً، أعلنه علي عليه السلام وأصر عليه، وهو أن يقتل عبيدالله بدم من قتل، لكن عثمان لم يملك إلا المخالفة لأسباب إنسانية، فقد تساءل الناس في شفقة: أيقتل عمر بالأمس ويقتل ابنه اليوم؟ ألا يكفي آل عمر قتل عمر؟، أيفجعون فيه ثم في ولده قبل أن تجف دموعهم عليه؟ منطق وإنسانية وظروف متغيرة.. يقال: إن عمرو بن العاص أفتى بفتوى بالغة الذكاء والمهارة عندما تولى عثمان، وسأل عَمراً أن يخرجه من المأزق الصعب، فسأله عمرو: هل قتل الهرمزان في ولاية عمر؟ فأجابه عثمان: لا، كان عمر قد قتل، فسأله ثانية: وهل قتل في ولايتك؟ فأجابه عثمان: لا، لم أكن قد توليت بعد، فقال عمرو: إذاً يتولاه الله.. الشاهد: أن عثمان حاول التخلص من المأزق بدفع الدية من ماله، ولم يتحمل عبيدالله وزر القتل أو حتى دية القتلى، وهو ما رفضه علي فظل يتوعد عبيدالله كلما لقيه بأنه إذا تولى فسوف يقتله، وما أن تولى علي حتى هرب عبيدالله إلى جيش معاوية، وحارب علياً حتى قتل في معركة صفين. ويشاء القدر أن يقع علي في نفس المأزق، وبصورة أعقد، فقد ولي ولم يقدر على قتلة عثمان، لسيطرتهم على المدينة، ثم انتقل من حرب إلى حرب وهم على رأس جيشه فلم يتمكن منهم، وعندما أعلن معاوية أن مطلبه الوحيد أن يدفع علي إليه قتلة عثمان، فوجئ بجيشه يهتف: كلنا قتلة عثمان، فزاد الموقف تعقيداً، وأصبح مستحيلاً على علي أن يثأر من القتلة أو حتى يحاسبهم.. القصة السابقة ذكرها فرج فودة رحمه الله في كتابه (الحقيقة الغائبة) في معرض تعييبه على دعاة المنهج الكربوني الداعين لعودة الخلافة، مؤكداً أن (الحياة هي الحياة وليست الجنة، والبشر هم البشر وليسوا الملائكة، وخلا عصر النبوة لا يوجد عصر للنقاء المطلق، أو انعدام المخالفة المطلق، وإذا كانت الاجتهادات واسعة والمخالفات واردة قبل أن يمر ربع قرن على وفاة الرسول، وفي عهد معاصريه فكيف بنا بعد أربعة عشر قرناً من وفاته؟!) دعاة المنهج الكربوني، قعدة الخوارج بالذات في كل زمان يحيون الفتنة الكبرى بدعوى(الجهاد) وأي جهاد؟! فعندما يحرض البريك على الجهاد صارخاً (الذي يتقن شيئا ينفع إخوته المجاهدين لاتبرأ ذمته إلا بالذهاب) ثم لا يرى في نفسه ما ينفع المجاهدين فيؤثر القعود، وتراه يستهين بمقتل الشباب بكل بجاحة (فليموتوا) وهو على رأس المتنعمين القاعدين مع أبنائه، فإننا ننسب مثل هذا التصرف لقعدة الخوارج؛ لأن الخوارج كانوا من الشجاعة بأن اشتركوا في حروب أوقدوها، بينما اكتفى وصحبه المحرضون بأن يكونوا من قعدتهم بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة،، والخوارج القعدية أخطر فرق الخوارج، كونها تعتمد زرع الكراهية والأحقاد وتكتفي بتهييج وتزيين القتل للآخرين لتحقيق غاياتها وأطماعها الواهمة بالخلافة وهي قاعدة.. ويأتي العريفي في مؤتمر الجهاد بمصر ليتألى في كلمته على تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بصير ويتخبط في مراوغة الحفاظ على العهد والميثاق الذي قطعه عليه الصلاة والسلام لأجل خلط العلاقات ونشر فوضى المسؤوليات وإشعال الفتنة بين الشعوب وحكامها.. فيقول (لما يأتي واحد من هالحكام ويحول بين أفراد تحركت فيهم النخوة، تحرك فيهم الإيمان والمروءة، ثم يريدون أن ينصروا الأمة، ثم يكونون عوناً على الإسلام وضده، هذه والله أعظم جريمة يفعلها هذا، سوف يرجم قبره كما رجم قبر أبي رغال، لاتزال الأمة تلعنه إلى قيام الساعة).. وأبو رغالٍ هذا رمزٌ للخيانة.. فماذا يريد هذا الواعظ المحرض وهو يرسم صورة الحاكم في عيون شعبه وهو خائن للدين والأمانة!! يواصل العريفي هجومه المسيّس(أقول للحكام: إن لم تتحرك نخوتكم فكّوا عنا شركم، أمسكوا عن الشر، لاتحولوا بين شعوبكم وبين نصرة هؤلاء، لاتحولوا بينهم وبين إمداد إخوانهم بالسلاح، أوإمدادهم بالجهاد بالأرواح) ومن موقع قعدة الخوارج يعلن هدفه الرئيس من التحريض على الجهاد (أيها المجاهدون اجتمعوا على مواجهة عدوكم، نحن ننتظر الخلافة الإسلامية وأقسم بالله الخلافة الإسلامية قادمة وكأني أنظر إليها بعيني الآن) مؤكداً أنها تنطلق من الشام. ذلك خطاب التغرير؛ الذي يحلم قعدة الخوارج بجني وهمه على طبق من دماء وأشلاء الأبرياء، وهم في قعدتهم آمنون مطمئنون؟!! يظهر التدليس الفتنوي على أشده في لقائه مع قناة الجزيرة بخصوص مؤتمر التحريض، ليعلن سحب إرادة الحكام من أيديهم (يبدو لي أن الثورة السورية وصلت لمرحلة أنها خرجت من قبضة الحكام، وأن السياسيين بعد أن خرجت القضية من قبضتهم أصبح العلماء هم الذين يوجهون فيها، واليوم أُعلن النفير العام للجهاد، واجتمعنا مع بعض قادة الكتائب المقاتلة في سوريا) ربما كانت الكتائب التي قصدها داعش أو النصرة.. أو غيرها من المتطرفين الإرهابيين!!.. لايخفي مع خطورة هذا الخطاب هوجه؛ الذي قاده إليه فرحته التي ما تمت- ولله الحمد- بمرسي المخلوع الذي علقت عليه قعدة الخوارج أحلامها بضرب سيادة الدول العربية، وبالذات دول الخليج لخاطر وهم الحاكمية الأممي الطاغي على خطابهم ومنهجهم وسلوكهم. ولنا أن نتخيل ما ينتظره العواجي في قوله (إن المرء يفترض ألا ينتظر موقف الحاكم، بل يكون له موقف مباشر مع الأحداث) من الفوضى الأمنية وضرب سيادة الدولة في أهم خصوصياتها الأمنية الدولية والمحلية.. لينشر مع أصحابه سمومهم المفرّقة والحالمة بشتات الأمر والأمن، لكن العقلاء يدركون أن أمن الدولة أعلى شأناً من واعظ أهوج يهذي بما يبغي ويتمنى.. والحمد لله أن خابوا وانقطعت أمانيهم منذ خلع الشعب المصري قائد الكذبة الأممية الكبرى مرسي ونظامه الإخواني الإرهابي.. إنّ الإسلام- كما شاءه الله- دين وعقيدة وليس حكماً وسيفاً، والجهاد جاء لحالة معينة وعصر معين، واليوم الكل حر كما يعلنها القرآن الكريم، وليس من داع للتدليس بأمر الجهاد الذي لم تعد أحواله موجودة أصلاً، سوى باستعداد أمني يدفع الهجوم وتستعد له جميع الدول في وزارات دفاعها.. وإنْ نعرض منهجاً للتفكير يسمح باستخدام العقل في التحليل، والمنطق في استخلاص النتائج، والشجاعة في عرض الحقيقة فإنه لا عاقل يرى داعياً للجهاد بمعناه في عهد الرسالة، فالعالم اليوم أجمع يشدد على حقوق الإنسان وحريته الاعتقادية، وكل بلاد الغرب تمنح حرية المعتقد وإقامة الشعائر وبناء المساجد، بل وتهب أبنائها حق تغيير دينهم دون تهديد بقتل أو خوف من عقوبة، فأين هو جهاد الطلب ومن الذي سيقتله دعاة الوحشية اليوم؟! إلا أن يكون إحياءً لفتنة الخوارج الكبرى حيث يقتل المسلم المسلم، ويمثل بجثته مما نشاهده يومياً من جماعات التطرف الإرهابية في بلاد المسلمين!!؟ التدليس على الحقيقة والواقع الذي يمارسه البريك وغيره في ترديد حديث (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق) والاستنكار الذي حملته تغريدة الكلباني ("يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال" فكيف يصبح الحث على الجهاد تهمة وسبة!) إنما هو قراءة مقطوعة عن سياقها وزمانها، فهل رأى أحدكم من يمنع إنساناً اعتناق الإسلام حتى يُحرّض على جهاده أو غزو بلاده؟!! إن المنطق والإنسانية والظروف المتغيرة تكشف أباطيل الوعاظ وهرجهم وتهريجهم بأنها مجرد هوس منفعي حاقد، لا شأن له بجهاد أو دين، وسؤال الواقع: من سنجاهد اليوم؟ وأين سيتوجه المجاهدون بجهاد الطلب؟ هل لمن يزودوننا بجميع منتجات العصر ومنجزاته العلمية والحضارية؟! أم للمسلمين فيقتلونهم لاختلاف المذهب؟ إذاً فأين منا حديث (لايزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). إن الحجج الباطلة تثبت فساد المنطق، والدعاوى الكاذبة يردّها العقل قبل النقل.. نحن في عصر غير العصر، والإسلام لا يتنافى مع روح العصر، أي عصر، في كل ما هو إنساني وسمح وعادل، والحضارة أضافت فيما أضافت مفهوماً واسعاً لحقوق الإنسان يضمن الحريات ويجرم التعدي والاعتداء على سيادة الأوطان ومكتسبات المواطنة والحضارة. يضعنا د.فودة أمام لامنطقية منهج"النسخ الكربوني" لمرحلة الخلافة فيبرز الحقيقة الغائبة أو المغيبة لإدراك أخطاء واقعنا المستمرة؛ فتيارات وجماعات التطرف الديني السياسية تتنامى بتأثير التربية والتعليم والإعلام في مجتمعاتنا العربية؛ حيث التفكير يخضع للتوجيه، والمنهج أحادي التوجه، والوجه الواحد من الحقيقة هو الحقيقة المتكاملة، بما يدفع المواطنين لاتجاه واحد يهيئ الوجدان لقبول التطرف ويغلق الأذهان أمام منطق التعايش والحوار المتحضر.. أما توسيع المساحة في أذهاننا للتعرف على العصر والالتقاء معه وقبول ما يأتي به من قيم تتناسق مع جوهر الإيمان فتجعلنا نُقبِل- حضارياً- بفكر منفتح على الزمان في عصر الإنسان؛..الإنسان أولاً والإنسان آخراً. أخيراً: صدور الأمر الملكي الكريم بردع المتبنين والمنتمين للأفكار والجماعات المتطرفة الإرهابية يعكس الحرص على أرواح المواطنين وتحقيق أمنهم وسلامتهم، فالدعوة للعنف في خطاب المتطرفين بحاجة لإعمال نصوص القانون لردعها، بشرط عزل أصحابها عن حركة المجتمع ومساره، فالقانون والفكر متلازمان لحل أزمة التطرف، وهو ما ننتظره لتحقيق جوهر الأمر السامي العظيم..