(شعر البيت الواحد) هو الميزة السائدة في الشعر العربي قديمه وحديثه، شعبيه وفصيحه، لأن العرب في القديم أهل رواية لا كتابة، كما أنهم يُعجبون بالبيت السائر، ويرددونه، وقلما يحفظون القصائد كاملة، بل يأخذون منها بيتاً أو بيتين أو ثلاثة فيها حكمة أو مثل أو بلاغة وجرس. ورغم أن الكتابة سادت منذ العصر الأموي وتطورت في العصر العباسي، إلا أن حياة البادية التي كانت هي الأصل وحاضنة الفصاحة والشعر ألقت بظلالها الطويلة على شعراء الحضارة، فلم يهتموا كثيراً بوحدة القصيدة، بل ظلوا -أكثرهم- على منهج البيت المستقل، ولهذا ندر في شعرنا - على كثرته الهائلة - الشعر القصصي أو المسرحي أو حتى الذي تترابط أبيات القصيدة فيه بشكل محكم كخرز السبحة، أو تكتفي بغرض واحد فحتى الغزل يسبقه غالباً بكاء الأطلال ووصف الناقة، وكذلك المديح، وربما تداخلت الأغراض المختلفة في قصيدة واحدة مختلطة. ورغم ذلك كله وجد بعض القصائد الجميلة - في شعرنا الشعبي الفصيح - التي نجد فيها وحدة القصيدة، والتي تسرك من أولها الى آخرها، وتشدك من بدئها لختامها، لكنها نزر يسير - نسبة لإرثنا الشعري الكبير - من القصائد ذات الطابع القصصي أو المسرحي، وأما (بيت القصيد) فظل صامداً في شعرنا العربي كأنه من جبال العرب، رغم أنه قد لا يكون هو الأجمل لكنه هو الأسهل في الحفظ. عبدالله فضالة ونقدم الآن قصيدتين، شعبية وفصيحة، والتي يتجلى فيهما وحدة القصيدة، وهي مجرد أمثلة لها أشباه في تراثنا الشعري ومورثونا الشعبي، ولكننا نوردها على سبيل المثال: مشاهد في مسرح الصحراء (وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزاءها ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طعما رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاِهتَمّا فقال هيا رباه ضيف ولا قرى بحقك لا تحرمه تالليلة اللحما وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا يَظُنُّ لَنا مال اً فَيوسِعُنا ذَمّا فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا) هذه القصيدة الرائعة للحطيئة تعتبر نموذجاً للشعر المسرحي أو القصصي فقد تكاملت فيها شروط القصة والمسرحية من العرض والعقدة والصراع ثم الحل، وهي نادرة في تراثنا الشعري، والغريب أن من صوّر (مسرح الكرم) بهذا الشكل المفصّل لم يكن كريماً ولم يُعرف عنه أي تضحية وإنما اشتهر بالهجاء المقذع والأنانية المفرطة ولكن الله جل جلاله يخرج الحي من الميت! ونجد في أشعارنا الشعبية قصائد متكاملة في موضوع واحد تقريباً، ونعتقد أن (وحدة القصيدة) في الشعر الشعبي أكثر منها في الشعر الفصيح نسبياً فابن لعبون له قصائد عديدة مخصصة لوصف بيوت الأحباب وأطلالهم، وللفارس راكان بن حثلين قصائد في عز قبيلته ولعبدالله بن سبيل قصائد كاملة في (مقطان البدو) ولحميدان الشويعر قصائد كاملة لا يوجد فيها غير الهجاء وبعضها مترابط على شكل قصة ساخرة لواقع المهجوء كما أن المطرب الشعبي عبدالله فضالة تغنى بكثير من القصائد ذات الوحدة الموضوعية إما على شكل قصة أو حوار مثل قصيدته عن (العجايز) و(مؤامرة العجائز الأربع) ولا أدري لماذا تسلط رحمه الله على العجائز؟! ومن قصائد عبدالله فضالة المغناة هذه الأبيات التي تظهر فيها الوحدة الموضوعية بكل وضوح (أيهما أجمل البيض أم السمر؟!) (عبدالله فضالة) هات يا قلبي عليهم عاد هات يوم شفت السمر جنّي مقبلات كاملات الزين هن سيد البنات أرياقهم يا قلب سكر مع نبات لو تشوف البيض بالحنّة تدوس فوق كبد أهل الهوا تمشي تدوس بس نظرة وزاهيات(ن) باللبوس و«...» كنهن طين السرات مآخذين الزود بالقسمة السمر خصّ ابن لعبون يوم إنه يمر شافهم وقت الضما وعظم الأمر شاهد(ن) له بن فرج قبل الممات لو عطيت البيض شي من الحقوق غير شوقي وسط عيني ما يلوق هايم(ن) في حبهم دوبي أفوق ما تناظر قيس في الوديان هات يا عديم الراي يللي لي تلوم السمر اركن على قلبي سهوم كَم راعي مال خلّوه معدوم قيس قبلي ضيّع فروض الصلاة أقسمت بالله وتورخت اليمين لأزيّد السمرا على البيضا سهمين باتديّن يا "حمد" وإنت الضمين عاملت بالدين كل الكاينات يا عديم الراي يللي لي تلوم السمر اركن على قلبي سهوم كم راعي مال خلّوه معدوم قيس قبلي ضيّع فروض الصلاة جتني البيضاء وقالت يا حسين ليش زودت السمر وإحنا غايبين نادهم للحكم وإحنا حاضرين واحكم بعدلك وخل ما فات فات جَنَّ كل البيض والسمر حضرن وا هني حسين قدامه سطرن كني بجنّات وأغصان ثمرن طال عمرك وا حلو إقبال البنات إبتدن البيض ثم صارت تقول يا أمير حسين إسمع ما أقول وإحكم بإنصاف لا تصير مهبول خل حكمك بالعدل واحكم ثبات السمر يا حسين وش تلقى بهم لا جمال ولا كمال ولا فهم أِشهد إن البيض أحسن منهم البيض كالأمهار وإن جن مقبلات قالت السمرا علامك تغلطين حنا فتات المسك وإحنا المؤنسين أرياحنا العنبر ومسك وياسمين حنّا هل القعدات وإحنا الغاويات وإلا العذارى البيض من بد الملا مالغاتن ما بهن نتفة حلا كم واحد يا حسين بالسمر إبتلى من نصانا ما يمل من المبات شفت مجلسنا علينا يبيطول قلت يا غزلان سمْعوا ما أقول كلكن حسنات وكلن له قبول كلكن بالزين والله كاملات