الغزل في أشعار العرب كالورود والزهور في الحدائق الفسيحة، يتناثر فوق المسطحات الخضراء فيمنح البهجة والألق، ويتمايل مع نسيم النعيم فيفوح العطر، ويتماوج بألوانه فيمتع النظر ويخلب اللب ويرهف الذوق ويتسلل إلى أعمال الوجدان كقطرات الماء العذب في جول عطشان.. اشتهر العرب عامة، والأعراب منهم خاصة، بالغزل العفيف، والحب العنيف حتى إنه قتل جماعة منهم في القديم والحديث كعروة بن حزام وقيس بن ملوح وابن عمار والدجيما الذي له القصيدة المشهورة: «يا جر قلبي جر لدن الغصون وغصون سدر جرها السيل جرا على الذي مشيه تخطٍ بهون العصر من بين الفريقين مرا يا ليتهم بالحب ما ولعوني كان أبعدوا عني بخيرا وشرا ويا ليتهم يوم أنهم ولعوني خلوني أقضي حاجتي واتذرا ويا ليتهم عن حاجتي سايلوني يوم أني آقف عندهم واتحرا وقفت عنده شايحات عيوني كني غرير باللهاوي مضرا لا قربوا منى ولا بعدوني ولا ميس منهم ولاني مورا» والمشكلة في الحب هي الأمل فالعاشق المسكين طامع مقطوع، ولو أصابه اليأس وفقد الأمل لارتاح، فإن اليأس أحد الراحتين، أما الثانية فهي الموت، وقد ارتاح شاعرنا الشعبي بالموت رحمه الله.. ومثله قيس بن ذريح الذي جن بليلى جنوناً، ثم مات وحبه يخفق في قلبه إلى آخر لحظة، وقال فيها القصائد الطوال والقصار، وتذكرها بالليل والنهار، ومن أشهر قصائده في ليلى تلك القصيدة الطويلة التي سماها (المؤنسة) لا أدري سماها هو أم النقاد، ومنها نقطف هذه الزهور: «تذكرت ليلى والسنين الخواليا وأيام لا تخشى على اللهو ناهيا ويوم كظل الرمح قصرت ظله بليلى فلهاني وما كنت ناسيا فياليل كم من حاجة لي مهمة إذا جئتكم بالليل لم أدر ماهيا أحب من الأسماء ما وافق اسمها أو أشبهه أو كان منه مدانيا ولا سميت عندي لها من سمية من الناس إلا بل دمعي ردائيا فإن تمنعوا ليلى وتحموا بلادها علي فلن تحموا علي القوافيا فما طلع النجم الذي يهتدى به ولا الصبح إلا هيجا ذكرها ليا فما أشرف الايفاع إلا صبابة ولا أنشد الأشعار إلا تداويا فلم أر مثلينا خليلي صبابة اشد على رغم الأعادي تصافيا خليلان لا نرجو اللقاء ولا نرى خليلين إلا يرجوان التلاقيا وقد يجمع الله الشتتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا» ولشاعرنا المشهور محسن الهزاني غزل كثير، يذكرني بعمر بن أبي ربيعة، ،قد تاب الشاعران في آخر عمرهما، وسبق أن عقدت بينهما مقارنة، فكلاهما شاعر أصيل في حسبه وفنه، وكلاهما يعشق بنات حواء، وكلاهما تاب توبة قوية، ولمحسن الهزاني قصائد مشهورة في التوبة مثل قصيدته (الميمية) وهي طويلة أولها: «سرح القلب في عشب روض الندم وامزج الدمع من جفن عينك بدم واغتنم يا فتى صحتك والفراق إن لا بد ذو صحة من سقم واحبس النفس عن طريق الهوى قبل أن يا فتى بك تزل القدم واحتزب من ظنونك لوا تبتئس فالجسد ربما صحته بالألم» ويندر أن يوجد شاعر عربي لم يتغزل، حتى الذين لم يعشقوا فعلاً.. تعزلوا تقليداً.. كالمتنبي فله عزل كثير من قوله: «أسبلن من فوق النهود ذوائباً فتركن حبات القلوب ذوائبا بيض دعاهن الغبي كواعبا ولو استباق الرشد قال كواكبا ومعربد اللحظات يثني عطفه فيخال من مرح الشبيبة شاربا حلو التعتب والدلال يروعه عتبي، ولست أراه إلا عاتبا» وكثيراً ما يرتبط شعر الغزل بنجد وصباها حتى لدى الشعراء الذين لم يسكنوا نجداً.. فهي رمز للشعر والحب العذري «الا يا صبا نجد متى هجت من نجد لقد زادني مسراك وجداً على وجد» يقولها ابن الدمينة وهو في العراق في قصيدة غزل مشهورة، ويقول ابن الخياط وهو في الشام: «خذا من صبا نجد أماناً لقلبه فقد كاد رياها يطير بلبه تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى يتوق ومن يعلق به الحب يصبه أغار إذا آنست في الحي أنه حذاراً وخوفاً أن تكون لحبه ولست على وجدي بأول عاشق أصابت سهام الحب حبة قلبه» قلت: ولن تكون آخر عاشق. ولشاعرنا المشهور محمد بن لعبون رحمه الله غزل كثير في (مي) وهو يشبه ذا الرمة، كلاهما بائس في الحب، وكلاهما بكى المنازل كثيراً، وكلاهما مات صغيراً.. ومن حديقة ابن لعبون نقطف هذه الزهرة: «وقالوا اصف حلاياها وصفها ووصفي قاصر عن ريم رامه سواد الناس في عيني عبات وهي مصيوغة عندي علامه وكل البيض من دونه بوصفي ولا وصلن حدر من حزامه وقالوا نال منها ما تمنى وأنا ما نلت منها إلا الندامه تواعدني بحول غب حول وتفصلني بقولته السلامه»