كتب الشاعر والباحث الإماراتي سالم الزمر في مجلة "دبي الثقافية" في العدد 84 مايو 2012م مقالاً تحت عنوان "بين محمد بن لعبون والسياب" حيث ذكر فيه أن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في مقطع لقصيدته "أنشودة المطر" الذي يقول فيه: أصيح بالخليج ياخليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى فيرجع الصدى .. كأنه النشيج: يا خليج يا واهب المحار والردى! قد استند في كتابة مقطعه إلى بيت الشاعر النبطي محمد بن لعبون المولود قبل السيّاب بنحو قرن ونصف القرن: أسأل الصدى: يا للعجب هل لهم تالي؟ قال الصدى: يا للعجب هل لهم تالي؟! وقد ذكر الزمر في قوله هذا أمور منها: - أن ابن لعبون قد جاء إلى الزبير عام 222ه وخرج منها 1243ه . - أن الأديب والناقد العراقي حسين عبد اللطيف كتب مقالاً عام 1992 ونشره في مجلة "آفاق عربية" في شهر يوليو يقول في: "ومع إني أجهل المصدر الحقيقي الذي استقى منه السياب ترديدته: أصيح بالخليج يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى، فيرجع الصدى كأنه النشيج ياخليج يا واهب المحار والردى، إلا إنني لا استبعد الظن في أنه خلقها من جماع ما يحوم في الذاكرة من مرددات شعبية أو ما يماثلها من دون الاستناد إلى نص معين " أ.ه - أن ابن لعبون عند أهل الخليج والجزيرة أعظم شعراً ومقاماً من السياب، فلقد قالوا بياناً لعظم قدره، ومن ذلك ترديدهم: "بعد ابن لعبون الشعراء كلهم يلعبون". وقد لقي مقال الزمر أصداءً من أهمها مقال الشاعرة العراقية فليحة حسن في جريدة "الزمان" الدولية العدد 4241 وتاريخ 3/7/2012م الذي جاء تحت عنوان "ليس دفاعاً عن بدر شاكر السياب" قولها: "غير إن ما جاء به كاتب المقال هذا (تعني الزمر) يمكن دحضه وبسهولة خصوصاً إذا ما عرفنا أن ابن لعبون هو شاعر نبطي فليس من المؤكد أن يكون السياب قد عرف كل الشعراء النبطيين أو قرأ لهم وتأثر بهم خاصة وأن السياب يكتب شعراً آخراً يفترق تماماً عن الشعر النبطي في اللغة والمعنى والمبنى" أ.ه حيث ترى فليحة حسن أن دليل أن يكون السياب قد أخذ من ابن لعبون لمجرد أن ابن لعبون قد جاء الى الزبير وعاش بها قبل السياب الذي ولد في البصرة التي فيها ذلك القضاء دليل لا يمكن الاطمئنان إليه تماماً، كما أن السياب قد عاش عمره القليل نسبياً الذي بلغ 38 عاماً بين السجن والمرض ودراسة الأدب الانجليزي، ولا تعتقد فليحة حسن أنه في هذا العمر الوجيز الحافل بكل أشكال الألم قد اطلع على شعر هذا الشاعر النبطي ونسج على منواله، أو حذا حذوه واقتفى أثره! وفي ردّها على استشهاد الزمر بما قاله الناقد حسين عبداللطيف في مقالته في "آفاق عربية" تنوّه فليحة حسن إلى أن حسين عبداللطيف لا يجزم كلّ الجزم بأخذ السياب من غيره، وهذا ما يؤكده في نهاية تلك المقالة وذلك في قوله: "من دون الاستناد الى نص معين" أ.ه وبالعودة إلى ترديدة بدر شاكر السياب التي يقول فيها: أصيح بالخليج ياخليج، يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى فيرجع الصدى كأنه النشيج ياخليج يا واهب المحار والردى فتعلّق فليحة حسن بأننا نرى السيّاب هنا وإن كان قد استعمل أحد أساليب الإنشاء ألا وهو النداء "يا خليج ..." إلا إن النداء هنا نداء غير مكتمل؛ لأنه نداء مقطوع أو مغاير، فالصدى لم يكن أميناً في ترديد صوت الشاعر حين صاح بالخليج: يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى، بل نراه قد أسقط منه رمز الحياة وهي هنا كلمة "اللؤلؤ" وحصر ترديده بما يدلل على الخواء والموت وحدهما المشار لهما بكلمتي "المحار، والردى"، وهو هنا بأبعاده لمصدر الحياة يدلل على خواء تلك الحياة واستحالة العيش بها. حسين عبداللطيف أما عن بيت ابن لعبون الذي يقول فيه: أسأل الصدى: يا للعجب هل لهم تالي؟! قال الصدى: يا للعجب هل لهم تالي ؟! فتعلّق فليحة حسن بأن هذا ما هو إلا محاورة بين الشاعر وبين الصدى، وقد استخدم فيها انسنة ذلك الصدى ليس أكثر. وتذكر الكاتبة بأن اعتماد الزمر على مثل جاء به قائليه لتطابق السجع لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال دليلاً على عظمة سطوع نجم ابن لعبون وعلو شأنه على مكانة بدر شاكر السياب الشاعر الذي لم يفعل شيئاً سوى أنه قام بتغيير مجرى الشعر العربي كلّه، وجعل كلّ من أتى بعده ينتمي إليه بحيازته على ريادة الشعر الحر دوناً عن سابقيه. وذكر الناقد والشاعر فاضل الغشم أن ابن لعبون بعد ذهابه إلى الزبير والاطلاع على الثقافة العراقية هناك عرف ما يسمى ب "المناداة" وهي التي كانت موجودة في الآداب العراقية القديمة وأخذ بها بعض أدباء العراق من بعدهم.. ولعلّ أول من حذا هذه المناداة هم السومريون، وملحمة "كلكامش" الكلدانية/الأشورية خير دليل على قول الغشم، وإلا لعددنا نظرية الفيلسوف واللغوي الروسي ميخائيل باختين (1895-1975م) "تعدّد الأصوات" نظرية لعبونية، يؤكد ذلك تجلي ثقافة "المناداة" في الشعر العراقي، ومن ذلك قول الشاعر العراقي أحمد مطر: صرختُ: لا من شدّة الألم .. لكن صدى صوتي خاف من الموت .. فارتدّ لي: نعم ! ولكننا لن نبعد كثيراً في تعدد الأصوات، أو محاكاة لذلك في الشعرين الفصيح والشعبي في الأقوال والحوارات التي ترد بين الشاعر والحبيب، أو بين الشاعر والعذّال، أو بين الشاعر والناس، أو بين الشاعر ونفسه! ولكننا نرى مدى شيوع ثقافة الصدى في الشعر الفصيح وفي أكثر من قطر عربي، ومن ذلك قول الشاعرة الأردنية نبيلة الخطيب: مادت بي الذكرى وأيقظني الصدى حزّت عروق النبض ملهبة المدى كم كنت أسدلت الضلوع تكتّماً فشرعتَ آفاق الجراح على المدى أمسكتُ أيّامي لشدّ عزيمتي فنشرتَ عمري في فضاكَ تردّدا ولكم جثا نصبُ السنين وهمّها أو لم يئن للصدر أن يتنهّدا؟! أو لم يحن للجرح بعد نضوبه أن يستكين لهدأةٍ ويضمّدا؟ حلمٌ كقصرٍ في الرمال قصدتُه في هبّةٍ للذاريات فما بدا أهفو لبسمة برقه فيكفّها رعدٌ يقهقه في الفضاء توعّدا نبعٌ ترقرق سلسبيلاً دافقاً أوردتُّه ظمئي فكيف تبدّدا؟ كما نجد ذلك في الشعر الشعبي المعاصر كما شاع عند شعراء ليبيا المعاصرين الذين ابتكروا فنّاً أسموه بفنّ "الصدى" ومنهم علي شحات الفاخري: يهري فيه لوعاته قوية العقل أنصاف دا عشّاق شاق..! على ماذا من مرّ ورزيه ما من قبل ها المذاق ذاق ..! صاف أصياف من طول الرجيّه مسع يوم في الفراق راق ..! بطول أبكاه بالدمعة السخيّه ما من النوح هالفقفاق فاق ..! ليل نهار صبحي والعشيّه ديما بيه هالنقناق ناق ..! وغير عليه كتبت هالشكيّه مامشكاه وين اشتاق تاق ..! أورود مناه للسيّه السيّه ضرّه وين فالميثاق ثاق ..! نبيلة الخطيب فليحة حسن