لبس بشته الذي يواري كثيراً من سوآته البدنية، وأخذ يخب فيه، متجهاً نحو المسؤول الكبير.. حينما جلس عند مدير المكتب أخذ يعبث بمسبحته وراح يجمع ويطرح ويسأل ويجيب ويتحاور مع نفسه تحسباً واستعداداً لمواجهة المسؤول.. وقال في سره: سوف أصارحه بوضوح سأتحدث معه بصوت مرتفع.. فهؤلاء لا يحسبون حساباً إلاّ لأصحاب الشخصيات الفولاذية القوية، لا تكن ضعيفاً يا رجل في أي موقف.. القوة تجعلك محترماً مهاباً، أما الخنوع فيجعلك مهاناً محتقراً مستهجناً.. فإياك إياك أن تضعف!! ثم فكر في نفسه وقال وكأنه يسمعها: هاه.. كلا.. بل سوف أحدثه حديثاً ليناً لطيفاً رقيقاً، فهؤلاء لا يريد الواحد منهم أن يرتفع صوت فوق صوته، ومن الفطنة والكياسة أن تكون حذراً ذكياً في تعاملك معهم، فعليك بالمداراة والأناة واختيار الألفاظ المناسبة وطريقة التعبير المناسب.. أما العنف فدعه ليكون آخر أسلحتك.. تنحنح من حيث لا يشعر وعض شفته، ثم لمس شاربه.. وقال: آه لست أدري.. مشكل والله مشكل.. كيف تتعامل مع هؤلاء؟ أي والله كيف؟ ثم أحس كأنه اهتدى إلى شيء طابت له نفسه.. وقال: سأترك الأمر لحالة المسؤول الكبير، فإن وجدته عابساً متغطرساً متكبراً فلا والله لن أقبل ذلك منه، سوف أتحدث بملء فمي، سأختار الألفاظ المناسبة، والكلمات المناسبة، سأعرف كيف أزن قوة وقدرة صوتي بحيث أجعله يربكه فيحسب حسابي ويعرف قدري.. لن أتهاون إن رأيته رافعاً أنفه ويتحدث بغطرسة سأحشو فمي بالألفاظ البارودية التي ستلذعه، وتحرقه.. أما إن كان الرجل هادئاً وقوراً ومحترماً فسوف اختار الألفاظ والكلمات اللائقة والمحترمة، والوقورة، هكذا فالأمر يحتاج إلى وزن، وحكمة وحسن تصرف مع الكياسة وضبط النفس.. غير أنه خفق قلبه، وكأنه تذكر شيئاً مؤلماً.. ثم رفع يده وأخذ يحك جبهته، ويهرش شعر رأسه، وقال: مشكلة، والله مشكلة.. كيف للإنسان ان يفهم هؤلاء.. ويستجلي ما يدور في رؤوسهم وما تنطوي عليه نفسياتهم كي يخاطبهم؟ آه لو كان هذا ابن عمي أو ابن خالي، أو حتى نسيبي.. ثم وضع سبابته على أنفه وقال: حقاً لماذا لا يوجد من أقاربنا مسؤولون كبار؟ أدخل يده في جيب معطفه فأخرج خيوطاً رقيقة وأشياء دقيقة أخرى فأخذ يدحرجها بين أنامله حتى صارت كالكرة، وراح يضغط عليها.. ثم صدرت عنه همهمة، جعلت بعض الجالسين من المراجعين ينتبهون إليه.. فخجل ولكنه ابتسم ليطرد خجله، ويداري من موقفه الذي أخذ يزداد ارتباكاً، وقال وهو يغالب ألمه: ما أسخف مثل هذا الموقف.. وما أسوأ أن تقع حاجتك بين يدي هذا وأمثاله.. ثم شرد قليلاً وقال وكأنه يستدرك: ما أسخف الإنسان حين يصل إلى هذا المستوى من الانخذال، والارتباك لمجرد انه سيقابل مسؤولاً كبيراً.. ثم ماذا؟ لا كبير إلاّ الله.. وبينما كان مستغرقاً في أفكاره وحواره مع نفسه إذ به يسمع همهمة وجلبة قادمة من مكتب المسؤول، ولم يكد ينتبه إلاّ وقد فتح الباب الفخم، وقد خرج منه المسؤول الضخم يتقدمه مجموعة من الفراشين، أحدهم يحمل البخور وقد تبعه معاونوه ومساعدوه.. وجفل الذين كانوا ينتظرونه، وقاموا.. ولكن المسؤول لم يلتفت لأحد فقد تحرك مسرعاً والفراشون والمساعدون يهرولون أمامه وخلفه ففز صاحبنا مرتكباً، ولم يتمكن من إصلاح وضعه، بل هب في سرعة وراح يهرول مع المهرولين، يريد مقابلة المسؤول ولو على الدرج أو في الطريق.. وانطلق وملفه في يد، واليد الأخرى تحاول إصلاح البشت، لكن طرف البشت كان يسحب دون أن ينتبه له، فالتوى على رجله فعثر فيه، فوقع متدحرجاً على البلاط، وكان لسقوطه وارتطامه صوت، وزلزلة.. فالتفت المسؤول الكبير، ثم وقف ينظر، وتوقف معه أولئك الخلق.. وقال: ما هذا؟ من هذا المخبول الذي وقع؟