حين صدر نظام التنفيذ جاء في نص المادة (89) منه على أن: (يعاقب الموظف العام ومن في حكمه بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات إذا منع التنفيذ أو أعاقه، ويعد ذلك جريمة من الجرائم المخلة بالأمانة) . وإذا كانت الجهات الحكومية مطالبةً بتنفيذ الأحكام الصادرة على الأفراد فيما بينهم، فإن التنفيذ إذا كان الحكم صادراً عليها أوجب وأولى. والامتناع منها أشنع وأقبح من امتناع الفرد عن تنفيذ الحكم. والجهات الحكومية وموظفوها ومسؤولوها جميعاً، كلهم مخاطبون بهذه المادة من النظام، ومطالبون – كلّ فيما يخصه – بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة، بل وتقضي هذه المادة أن الامتناع عن التنفيذ يعتبر جريمة مخلة بالأمانة، يعاقب عليها بالسجن سبع سنوات . وما ذاك إلا لأن القضاء من غير احترام وتنفيذ لأحكامه، لا قيمة له. فكل صاحب حق لم يلجأ للقضاء، ويتجه لإقامة الدعوى، والصبر في انتظار نتيجتها على أحرّ من الجمر، إلا للحصول على حقه الذي يطالب به، لا للحصول على حكم يحتفظ به في خزانة بيته. إلا أنه وبكل أسف، ما زالت بعض الجهات الحكومية تتلكأ وتمتنع عن الرضوخ لأحكام القضاء، وتختلق الذرائع المختلفة للتنصل من واجبها في ذلك. والعجيب في الأمر أن كل الجهات الحكومية حين يكون الحكم صادراً على فرد من الأفراد تسارع إلى تنفيذه دون أي تردد، أما حين يكون صادراً عليها تمتنع !!. وإذا كانت الجهات الحكومية مطالبةً بتنفيذ الأحكام الصادرة على الأفراد فيما بينهم، فإن التنفيذ إذا كان الحكم صادراً عليها أوجب وأولى. والامتناع منها أشنع وأقبح من امتناع الفرد عن تنفيذ الحكم. وفي رأيي أن هيئة مكافحة الفساد في ظل النصّ النظامي الوارد في نظام التنفيذ، بتجريم امتناع أي موظف عن تنفيذ الأحكام القضائية، أصبحت ملزمة بالتدخل في مثل هذه الأحوال، إذ كيف تسكت الهيئة الموقرة على فعلٍ نصّ النظام صريحاً على أنه (جريمة ٌمخلة بالأمانة) ؟ وما يزيد الأمر تعقيداً، أن الأحكام القضائية الصادرة في الدعاوى التي تكون بين الأفراد العاديين، أصبح هناك قضاء خاص يتصدى لتنفيذها بالقوة الجبرية، وبوسائل فاعلة، وهو قضاء التنفيذ، أما الأحكام القضائية الصادرة ضد جهات الإدارة فما تزال مسألة تنفيذها تواجَه بصعوبة، وليس هناك أي جهة إدارة تنفيذية يلجأ لها الفرد لإلزام جهة الإدارة بتنفيذ الحكم الصادر له. وأعلم تماماً أن النظام لم يضع جهة تختص بتنفيذ الأحكام القضائية على جهات الإدارة، لأن المفترض في كل جهات الإدارة أن تكون هي بمثابة قاضي التنفيذ على نفسها، فلا يتصور أن تكون الجهات الحكومية تطالب الناس باحترام القضاء، وتتخلف هي عن ذلك. ولأهمية وحساسية هذه القضية يجب الالتفات لها، ويجب أن تهبّ كل الجهات الرقابية المختصة لمحاصرة هذه المشكلة قبل أن تستفحل، فهيئة مكافحة الفساد، وهيئة الرقابة والتحقيق، كلتاهما مسؤولة عن متابعة هذا الموضوع، والأخذ على يد أي مسؤول يمتنع عن تنفيذ حكم قضائي صادر ضد إدارته أو وزارته (كائناً من كان). لقد أحزنني حين اتصل بي قبل أيام مواطن يشكو من هذه المشكلة، وأطلعني على حكم قضائي صدر له على إحدى الوزارات بإلغاء قرار صادر منها بحقه، وأصبح الحكم نهائياً، إلا أن الوزارة لم تنفذه منذ عدة سنوات. ويسألني أين يتجه؟ ومثل هذه القضية تتكرر بين وقت وآخر، بل حتى وصلت الحال بأحد مسؤولي الجهات الحكومية قبل سنوات بأن علّق في هذه الصحيفة على حكم صادر ضد إدارته بقوله : لن ننفذ هذا الحكم!! وفي مثل هذه المخالفة الكبيرة، تقليل من احترام القضاء وهيبته، وإهدار لحجية الأحكام القضائية، وكل ذلك لا يليق أبداً بجهة حكومية. وإذا كانت كل دول العالم تحترم قضاءها وأحكامه، وهي مستمدة من القوانين الوضعية، فكيف لا نحترم نحن قضاءنا القائم على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية ؟! ومن العجيب في الأمر أيضاً أن بعض الجهات الحكومية التي تكرر منها الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء، جهة شرعية دينية !! وإذا كانت تتمسك بعض تلك الجهات في امتناعها عن تنفيذ الحكم القضائي بادعاء أن ذلك للمصلحة العامة، فإن المصلحة العامة الحقيقية هي في احترام أحكام القضاء مهما كان لدينا من ملاحظة أو تحفظ على ذلك الحكم، فإن في اهتزاز هيبة الأحكام القضائية، أعظم الضرر، ولولا ذلك لما نصّ نظام التنفيذ على اعتباره جريمة مخلة بالأمانة . أسأل الله أن يوفقنا لكل خير، وأن يصلح أحوالنا.. والحمد لله أولاً وآخرا.