ما أن يرد اسم حي "القريشية" بالعاصمة الرياض إلاّ ويرد معه ذكر "الحضارم" أو من يسمون "حضارم الرياض" الذين نزلوا لهذا الحي القديم وسط العاصمة منذ بدايات الثمانينيات والتسعينيات الهجرية، وعرفوا كغيرهم من الحضارم بحسن الجوار وطيب المعشر، لا سيما وأن هذا الحي قريب من مواقع أعمالهم وتجارتهم، حيث حي الصناعية الأولى وسط الرياض الذي التزم الحضارم من خلاله بتنوع سبل الاستثمار وطرق أبواب الرزق، الذي لم يقف على التوريد والاعتمادات وتجارة التجزئة؛ بقدر ما حظي بالتغيّر المستمر وتنوع الأنشطة مع الحفاظ على ميزة التخصص والتمسك بالنشاط الرئيس الذي لا يغيب عنه صاحبه ولو للحظة واحدة؛ جرياً على المثل السائر "زيد محلك جلوس يزيدك فلوس"، والذي يتطلب الجهد والعمل بصمت ومثابرة، وفقاً لحكمة حضرمية قديمة مفادها أن "الأرض لمن انقطع رزقه"، وأن السعي الحثيث في ظروب التجارة وطلب الرزق مدعاة لتنويع الاستثمار، ناهيك عن صبر الشاب الحضرمي على صعوبة البداية عملاً بقول العلماء "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات"، ولذا كان الحضرمي الطموح كثيراً ما يردد قول من سبقوه: "اعط محلك جلوس يعطيك فلوس". حارة الحضارم في الرياض بدأت من «القريشية» ثم وصلت إلى العزيزية حالياً استوطنوا بداية في حي «القريشية» ثم توزعوا على أحياء «خنشليلة» والملز والعزيزية تنوع استثماري إذا كان حي "الصحيفة" في جدة أحد أشهر أحياء الحضارم في المملكة؛ فإن حي "القريشية" قديماً وحي المنصورة "خنشليلة" وحي "العزيزية" حديثاً، تعتبران أشهر أحياء الحضارم في الرياض، لا سيما وأنهم رغبوا من خلال سكناهم لهذه الأحياء التواجد بجوار سوق العمل، والإشراف المباشر على تجارتهم المتنوعة، التي تسير وفقا لحكمة حضرمية التي تقول "البحر واحد والسمك أنواع"؛ فمن قطع الغيار والمواد المصنعة وتجارة التموين الغذائي، إلى الذهب والمطاعم، وغيرها من تجارة التجزئة، ومواد البناء والمواد الكهربائية ولوازم السيارات، التي يقول الحضرمي ان السيارة الواحدة فيها أكثر من ثمان وعشرين فرصة "استثمارية رئيسة"، ولهذا نشط حضارم في "القريشية" وحي الصناعية القديم وسط الرياض، واستلموا مع إخوانهم وشركائهم أصحاب المحال عدة فرص استثمارية، وتحديداً مواد التصنيع وقطع الغيار، ولذا كان اختيارهم للمكان حيث يقع حي "القريشية" في أطراف حي العود وسط الرياض، وحين بدأت ملامح الطفرة الاقتصادية في البلد نال الأشقاء الحضارم ما نال إخوانهم أصحاب المحال والمصانع، حيث زاد الطلب وتوسعت التجارة، وهو ما ظهرت ملامحه على أحوال الناس، حيث عُمّرت الدور والمساكن الواسعة، وانتقل كثير من الحضارم إلى حي "العزيزية" في أواسط الثمانينيات الميلادية، خاصة أولئك الذين احترفوا تجارتهم في مواد البناء، ومصانع البلوك وكسارات الحجر، كما زاد من الهجرة نحو حي "العزيزية" تثمين أمانة منطقة الرياض لكثير من أحياء وسط العاصمة، أما حي "خنشليلة" فقد أصبح في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات أحد أشهر أحياء الحضارم الميسورين، حيث الدور والمساكن الواسعة غير البعيدة عن مراكز التجارة، ومع الهجرة لحيي "الخنشليلة" و"العزيزية"، فقد حي "القريشية" كثيراً من الأسر الحضرمية التي لها الآن اسمها ومكانتها التجارية، حيث انتقل بعض هؤلاء إلى أحياء أخرى عدا "خنشليلة" و"العزيزية"، حيث جنوب حي "الملز" أمام ملعب الصايغ، وكذلك أجزاء من أحياء "الخالدية" و"حلّة العنوز". الفوال و«البنشري» أصبحا اليوم من كبار تجار المواد الغذائية وقطع غيار السيارات ليال حضرمية ظل حضارم الرياض يتذكرون جيدا كيف كانوا حين طفولتهم في "القريشية"، يتنقلون بين شارع "الحلّة" غرباً إلى مدرسة "عبد الحميد الكاتب" شرقاً، ومن شارع "غبيرة" جنوباً إلى حي "الصالحية" شمالاً، وهناك تمتزج رائحة "السليط" و"اللخم" و"الهريس" بعبق "الحنيذ" و"المندي" و"المظبي"، حيث كان الطباخ الحضرمي يتفنن بالقدور الحجرية في تحضير "الصيادية" و"العصيد" و"الفول" و"القلابة"، ومع أطباق "العدس" و"الخصار" يحضر الشاي العدني الممزوج بالحليب أو الزعفران أو "الهيل"، وفي شهر رمضان كانت الدور في "القريشية" منازل دنيا وآخرة، فبقدر ما تمتلئ المساجد في صلاتي التراويح والقيام، بقدر ذلك كانت الأزقة الضيقة تعج بالأطفال الذين يلعبون "شبط لبط" في حين يبيع الكبار منهم حبيبات الريم "الفصص" و"الدوم"، وربما سرق "سالمين" و"عمر" نظرات بريئة إلى الريم "السطح" المجاور حيث "عمرة" و"رحمة" تنشران الغسيل وتتغنيان للخيب "الطفل الصغير": يا بنات المكلا يادوى كل علة ولا يكاد يقطع هذا العمل واللعب الدؤب، إلاّ صوت المفلّح "المسحراتي" الذي يوقظ الأهالي للفلاح "السحور"، وهو يردد: رحبوا رحبوا بشهر رمضان ياصائمينا عاده الله علينا وعليكم أجمعينا الحضارم عاشوا بيننا بعاداتهم الأصيلة وقيم العمل الشريف أمانة ومصداقية كان للعسل الحضرمي حضور لافت في أزقة ودور الحضارم، كما كانت أطباق ال"باخمري" و"المشبك" -الذي تسميه العرب قديما الزلابية- و"المغوش" لا تكاد تغيب عن المائدة الحضرمية، لا سيما في شهر رمضان المبارك، وعليه فما يزال "حضارم الرياض" يأنسون ويحنون كثيراً لطيب أيامهم وصفاء عيشهم في أحياء وسط وجنوب العاصمة، بل لطالما استعاد كبار السن منهم أيام بداياته وربيع شبابه ومسيرته العملية والاستثمارية، أمام أبنائه وهو يتجول معهم في الأزقة الضيقة، وحينذاك يسود الصمت وتعبر المدامع عن ألم الفراق وحرارة الوجد والأشواق. حضارم المهجر ومما يذكر عن الحضارم أنهم كانوا أمهر العرب في ميدان التجارة، وكانت قوافلهم التي تخرج من جنوب الجزيرة العربية تغزوا بمنتجاتها وتجارتها سواحل الهند وجزر "الفلبين"، ناهيك عن سواحل العالم البعيد في إندونيسيا وماليزيا، التي دخلت إلى ربقة الإسلام بفضل من الله سبحانه ثم بفضل تجار المسلمين، الذين يتقدمهم الحضارم، والذين ما زالت أسماء كبار الأقاليم والمدن لديهم تحمل أسماء رجالاتهم ك"حيدر أباد" وأمان الله "مانيلا"، ولذا كان الرحالة "أبو عبدالله المقدسي" المعروف ب "البشاري" يقول عن مدينة عدن أنها "دهليز الصين وفرضة اليمن وخزانة المغرب ومعدن التجارات"، بل ذكر الرحالة "ابن جبير"، وكذلك "ابن بطوطة" أن التجار في عدن كانت لهم ثروات طائلة، وكان بعضهم يملك المراكب العظيمة لنقل سلعهم، ويذكر أن أحد رفقاء الرحالة "المقدسي" في السفينة إلى عدن صارحه بأنه يخشى عليه إذا دخل إلى حضرموت أن يفتتن بالتجارة عن العلم، وفعلاً فإنه لما نزل حضرموت وشاهد حجم ثراء الناس من التجارة، عقد العزم وبدأ شراء لوازم السفر، ولم يثنه عن هذا العزم ويبقه لطلب العلم إلاّ موت شريكه. حضارم أمام مستشفى «الشميسي» يبيعون «قوارير» التحاليل للمرضى بأربعة قروش قالوا عنهم: «الشمس لا تشرق على أرض لا يوجد فيها حضرمي»، «تاريخ الحضارم ومجدهم الحقيقي خارج وطنهم» ويأخذ البعض على الحضارم عدم اهتمامهم بالتخصصات العلمية، حتى إن الأديب الكبير "أحمد باكثير" كان كثيراً ما يردد "لو ثقفت يوماً حضرمياً لأتاك آية للعالمين"، ولذا كثيراً ما ترتبط تجارة الحضارم بما يسمى الاستثمار المباح من باب الحيطة وعدم الوقوع بالمحظور شرعاً وعُرفاً، وقلّ أن تجد حضرمياً يتاجر بما تحوطه الشبهات، ولأن لكل قاعدة شواذ فقد حرصت الحكمة الحضرمية القديمة على غرس ذلك في نفوس الشباب الحضرمي، من خلال مقولة الأجداد "اعرف ربك زين يحميك من العين"، وهي حكمة ما زالت تعمل بقوة في أروقة تجار الحضارم، الذين علّموا أبناءهم مقولة الوعاظ السابقين "عش لدنياك كأنك تعيش أبداً"، كما علّموهم قبل ذلك الالتزام بقوله تعالى: (وابتغ فيما أتاك الله دار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)، وتذكر المراجع التاريخية المعتبرة كيف قاوم الحضارم في الحجاز مع أهالي مكةالمكرمة والمدينة المنورة جنود "نابليون بنابرت" في حملته على مصر، حتى إن رجلاً اسمه "محمد باصلاح الحضرمي" كان قد تصدق حينها بخمس مئة بندق، ومئتي حربة، ومئتي سيف، وأربع مئة كيس من حبوب الرز، وألفي نعل ينتعلها الفقراء المجاهدون، حتى لقد وصف المؤرخ الفرنسي المصاحب للحملة الفرنسية "هيرو ولد" الجموع التي خرجت لمواجهة الحملة الفرنسية من أرض الحجاز وصفاً دقيقاً، كما وصفهم المؤرخ المصري "الرافعي" وشيخ مؤرخي مصر "عبدالمجيد الجبرتي"، وذكر أسماء قادتهم وفصّل المؤرخ اليمني "لطف الله جحاف" في مخطوط له -عُثر عليه مؤخراً- حجم الجيش الذي خرج من الحجاز وجزيرة العرب ونزل بالسواحل الجنوبيةالشرقية لمصر، ودخل مع القوات الفرنسية الغازية في عدة معارك ضارية. يتنقلون بين شارع «الحلّة» غرباً إلى مدرسة «عبد الحميد الكاتب» شرقاً ومن «غبيرة» جنوباً إلى حي «الصالحية» شمالاً دين ودنيا يُعرف عن الحضارم صدق ولائهم ومحبتهم للأرض التي يقيمون ويعيشون فيها مع عشقهم لأرضهم في عدنوحضرموت، ولأن معظم الحضارم خارج الجزيرة العربية موزعون في الشرق والغرب، فقد حرص الكثير منهم للحفاظ على ثقافتهم وهويتهم وكثير من عاداتهم وتقاليدهم، سواءٌ كانوا في شرق المعمورة أو غربها، ولا أدل على ذلك إلاّ قول الرحالة البريطاني الشهير "السير ريتشارد بيرتون": (من المعلوم أن الشمس لا تشرق على أرض لا يوجد فيها رجل من حضرموت)، وهم مع هذا أمينون مأمونون في كل الديار التي ينزلون بها، بل إنهم يساهمون -في الغالب- في دفع العجلة الاقتصادية، وينمون فرص الاستثمار أينما حلوا، ولذا قال عنهم "شكيب أرسلان": (إن تايخ الحضارم ومجدهم الحقيقي خارج وطنهم)، وقد ذكر الشيخ "عبد الله بلخير" -أحد مستشاري الملك عبدالعزيز والملك سعود- أن شكيب أرسلان كان قد عزم على تأليف كتاب بعنوان "السيل العارم في تاريخ الحضارم" لولا أنه توفي قبل إخراجه، ولعل الدكتور البريطاني "أيان كروكر" يعد الآن في بحث مطول عنوانه "الشتات الحضرمي في المحيط الهندي" تطرق فيه إلى الهجرات الحضرمية التي شبه الشيخ "علي الطنطاوي" -رحمه الله- الحضارم فيها ب "فينيقيي العصر الحديث"، لا سيما وقد كان لهم الفضل -بعد الله سبحانه- في زيادة عدد المسلمين إلى الضعف، حين دخلت الشعوب الأفريقية والآسيوية في الإسلام، بل لقد كانت سفن التجار الحضارم وبواخر السلطان "القعيطي" و"الكثيري" تجوب بلاد الهند وجزر شرق آسيا، في حين كان التجار يسيحون في بلاد "الغال" وما وراء النهر، بتجارتهم واستثماراتهم فينشرون لغة الضاد ويقيمون المدن العربية، وقد حكم تلك البلاد -على مر التاريخ- كثير من أبناء جنوب الجزيرة العربية. تقاليد الحضارم نابعة من أصالة موطنهم وكرم نفوسهم الحي القديم لقد بدأ حضارم "القريشية" بالرياض كما بدأ حضارم حي "الصحيفة" بجدة، فكما برز في مدينة جدة أسماء لامعة في عالم المال والاستثمار؛ برز في العاصمة كثير من الأسر والعوائل الحضرمية التي كانت ومازالت تشارك العوائل الحضرمية في كافة مناطق ومدن المملكة صدق الولاء والمحبة لهذه الأرض، التي استظلوا بظلالها الوارفة واستثمروا من خيراتها الوافرة، وعاشوا وتعايشوا مع إخوانهم في هذه البلاد، ينعمون بفضل من الله سبحانه بالأمن والاستقرار، وقد فتحت عليهم أبواب الرزق والخيرات، لا سيما وأن آباءهم وأجدادهم وحتى أبنائهم ومازالوا ممن يحظون بثقة ولاة أمر هذه البلاد على امتداد التاريخ، بل قد ساهموا هم أيضاً بكل أمانة وصدق في دفع مسيرة العطاء والنماء، خاصة أنهم وجدوا المناخ المناسب للاستثمار الآمن، وهو ما يردده أبناء الحضارم الذين يفرّون إلى حي "القريشية"، ويبدأون بمساعدة ذويهم بالعمل التجاري في المحال المتنوعة وفي العقار، وهم يرددون مثلهم الدارج "من أمه في الدار كل قرصة حار"، حيث يتعاون الصغار مع الكبار في الاستثمار التجاري، بعيدًا عن حي "القريشية" الذي غابت عنه الآن نضارة الحياة، وأصبح سكناً لكثير من العمالة الوافدة، بل قطعت المشاريع الحديثة أوصاله وشتتت أجزاءه، فما عاد لعبق الشاي العدني و"الخصار" الحضرمي أثر في أزقة وشوارع الحي، بل لقد غابت جرة الفول التي كان العم "بكر" يوقد نارها قبل صلاة الفجر، كما غابت "هريسة" العم "راجح" التي يتقافز الأطفال أمام صوانيها المعدنية، ولم يبق من الحي القديم سوى شبابيك الدور ومرازيم المياه التي تحكي لك قصة حضارم الرياض، الذين مازال كبار السن منهم يزور هذا الحي؛ ليحكي للأحفاد مسيرة هجرة الأجداد، وهو يردد أمام الأطلال البلية قصيدة الشاعر القديم: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب الا للحبيب الأولي كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل في حين يترك لأبنائه الذين شبوا وترعرعوا في حي "خنشليلة" و"العزيزية" فرصة لأن يرددوا على مسامعه قصيدة الشاعر الحائر، وهو يقول: قلبي رهين بالهوى المتقبل فالويل لي في الحب إن لم أعدل أنا مبتلي ببليتين من الهوى شوق إلى الثاني وذكر الأول معايدة حضرمية جمعت القلوب بأهازيج تعبّر عن عمق التلاحم