كما هو معروف فإن الكلمة هي التي حملت جميع الرسالات السماوية والأرضية، كما أن كل الثورات والتغيرات الرئيسية في حياة الشعوب والأمم والبلدان تمت عبر الكلمة التي هي لحمة وسدى كل عقيدة وأيديولوجيا ونظرية ورؤية، وبالإجمال فإن كل فعالية إنسانية نحو التطور كانت وليد فكرة عبر كلمة حية. كانت الخطابة فيما مضى أحد فنون التعبير المؤثرة والتي تميز بها قادة ورجال فكر في العصور القديمة، وحتى في بدايات عصر النهضة في اوروبا وعندنا كانت الخطابة إحدى ادوات الاتصال القوية وقد اشتهر الزعماء قديما وحديثا بالقدرة على الخطابة والتأثير على الجماهير الا أن ذلك لم يعد مقياسا الان والى حد ما يمكن القول إن الخطابة وكل فنون القول الاخرى تكتسب اهميتها من الحالة الشعبية ففي ظروف النهضة تكون الكلمة مسموعة وتحدث التغيير وتلهب الحماس ويتم ترجمتها عمليا، وفي ظروف التردي لا تنفع الفصاحة والبلاغة. فالكلمة هي الروح عندما توهج العقول والقلوب وهي لفظ أجوف عندما يقتصر ترددها على ملامسة الأذن. وكما هو معروف فإن الكلمة هي التي حملت جميع الرسالات السماوية والأرضية، كما أن كل الثورات والتغيرات الرئيسية في حياة الشعوب والأمم والبلدان تمت عبر الكلمة التي هي لحمة وسدى كل عقيدة وأيديولوجيا ونظرية ورؤية، وبالإجمال فإن كل فعالية إنسانية نحو التطور كانت وليد فكرة عبر كلمة حية. وبأسى وألم ندقق في أحوال أمتنا وشعوبنا اليوم حيث تنفجر تيارات الطوفان اللفظي الأجوف عبر الإعلام الفضائي والأرضي وكافة المنابر والمجالس والمنتديات والمدارس والجامعات وكل وسائل التواصل التي تفيض بمحيطات وبحار وأنهار اللغو والثرثرة، وكل أشكال الكلام الفارغ التي لا تحدث أي تأثير أو تغيير لتحريك وجدان الإنسان المتحجر الذي يصفه القرآن الكريم بقوله تعالى: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها). ولعل واحداً من اوضح الأمثلة في تاريخنا الذي يعكس حالة النهوض والانتصار في الأندلس في البدايات هو خطاب طارق بن زياد عند توجه الجيوش العربية لفتح أسبانيا أما المثال الآخر الذي يعكس حالة النكوص والانكسار في النهايات عبر الخطاب البليغ للشيخ لسان الدين بن الخطيب عشية سقوط الأندلس. وأكتفي في هذا المقال باستحضار خطابيْ بداية ونهاية الأندلس حيث خطاب ابن زياد البليغ عند الفتح الذي تم سماعه، وخطاب ابن الخطيب الأكثر بلاغة عند الندحار الذي لم يتم سماعه. وهذا هو نص خطاب طارق بن زياد: أيها الناس أين المفر، البحر من ورائكم والعدو امامكم، وليس لكم والله الا الصدق والصبر. واعلموا انكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام، في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، واسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم الا سيوفكم، ولا أقوات الا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وان امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم امرا، ذهب ريحكم، وتعوضت القلوب من رعبها عنكم، الجرأة عليكم فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به اليكم مدينته الحصينة، وان انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لانفسكم بالموت. واني لم أحذركم امرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة ارخص متاع فيها النفوس، أبدأ بنفسي. واعلموا انكم ان صبرتم على الأشق قليلا، استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبدالملك امير المؤمنين من الأبطال عربانا. ورضيكم لملوك هذه الجزيرة اصهارا واختانا. ثقة منه بارتياحكم للطعان. واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان. ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، واظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى وليّ انجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين. واعلموا أني أول مجيب الى ما دعوتكم اليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله ان شاء الله تعالى. فاحملوا معي فان هلكت بعده فقد كفيتم امره، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون اموركم اليه. وان هلكت قبل وصولي اليه، فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله. اما خطاب لسان الدين بن الخطيب فقد استمعوا له بآذانهم باهتمام ولكن كانت الحالة اعجز من ترجمته الى فعل وهذا هو نصه:اخوانكم في الاندلس دهمهم العدو وام الكفر استباحتهم وزحفت احزاب الطواغيت اليهم ومدوا اذرعهم وايديهم مع انكم بعزة الله تعالى أقوى، وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى، هو دينكم فانصروه، وجواركم القريب فلا تخفروه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه، الجهاد الجهاد فقد تعين، الجار الجار فقد قرر الشرع حقه وبين، الله الله في الاسلام، الله الله في أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الله الله في المساجد المعمورة بذكر الله، الله الله في وطن الجهاد في سبيل الله، قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم ان تنكثوه، اعينوا اخوانكم بما أمكن من الاعانة، أعانكم الله تعالى عند الشدائد، جددوا عوائد الخير، يصل الله تعالى لكم جميل العوائد، صلوا رحم الكلمة، واسوا بأنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة، كتاب الله بين أيديكم، وألسنة الآيات تناديكم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائمة فيكم، والله سبحانه يقول فيه: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم) ومما صح عنه قوله: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار»، «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم»، «من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا» أدركوا رمق الدين قبل ان يفوت، بادروا عليل الاسلام قبل ان يموت، احفظوا وجوهكم مع الله تعالى يوم يسألكم عن عباده، جاهدوا في الله بالألسن والأقوال حق جهاده، ثم أنشد (من الكامل): ماذا يكون جوابكم لنبيكم وطريق هذا العذر غير ممهد إلى ان قال: لمَ فرطتمو في أمتي وتركتموهم للعدو المعتدي؟ تالله لو أن العقوبة لم تخف لكفى الحيا من وجه ذاك السيد اللهم اعطف علينا قلوب العباد، اللهم بث لنا الحمية في البلاد، اللهم دافع عن الحريم والضعيف والاولاد، اللهم انصرنا على اعدائك بأحبابك وأوليائك يا خير الناصرين، اللهم أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..