-1- قبل خمسة وعشرين عاماً.. رزقت به أمه بعد عشر سنوات من عدم الإنجاب، رفعت سماعة الهاتف بعد ولادتها له لتبشر زوجها به، واستقبل زوجها الخبر السعيد وهو في عمله، ليشرق وجهه بالسعادة، وخرج من عمله متجهاً إلى المستشفى، كان الطريق الذي يعرفه جيداً قد تغيرت ملامحه، وبين الطريق من عمله إلى المستشفى كان يفكر باسم ابنه الجديد، يتخيله بين يديه، يتخيله يكبر وينادي عليه " بابا.. بابا.. " ولم ينتبه أن الإشارة الضوئية التي أمامه قد تحولت إلى اللون الأحمر منذ ثواني، لتصدمه سيارة قادمة من الطريق المقابل ويفارق الحياة وهو يردد كلمة ابنه " بابا.. بابا.. ". -2- وبعد خمسة وعشرين عاماً.. تزوج ذلك الابن لتسقط أمه في ليلة زواجه، حين أوفت الأم بنذرها لأبنها بأن ترقص في زواجه.. أمسكت زوجته بيده بقوة وقالت: = دع أمك تجلس.. أخجلتنا برقصها!.. هنا سقطت أمه، حين قام من مكانه وأمسك بيد أمه ليجلسها، جلست أمه مكسورة الخاطر، وحين رجع لمكانه بجانب زوجته، مسحت أمه دمعتها التي نزلت على خدها، حتى لا يراها ابنها وتكدر عليه يوم زواجه!.. -3- عاش مع زوجته في دار أمه، فكانت أمه الخادمة الوحيدة لهما!.. كان يسرق حتى فرحتها، وكانت تجزل له العطاء ولم تشتكِ، كانت تشعر بألم ولم تخبر ابنها عنه حتى لا تشغله، وكانت تعرف مسبقاً أنه سيهون عليها ألمها، ويأتي لها بدواء من الصيدلية ليخفف ألمها، كانت تعرف ذلك جيداً، فكثيراً ما فعلها ابنها، وكثيراً ما أخفت ألمها وادعت الصحة، لكن هذه المرة لم تدعي الصحة، لأن الألم انتشر في كل أنحاء جسدها، وأجلسها على فراشها، بجانبها أدوية كثيرة جلبها ابنها من الصيدلية دون استشارة طبيب، ودائماً يعاتب أمه بأنها لا تنتظم في العلاج، رغم أن علب الأدوية تكاد أن تكون فارغة. وكان يوم الجمعة هو أول يوم منذ وفاة زوجها تطلب من ابنها أن يذهب بها إلى المستشفى، تردد ابنها قليلاً، وأمام وجع أمه أنصاع لأمرها، وبينما كانت الأم تلملم أدويتها دخلت زوجة ابنها، وحين عرفت أنه سيأخذها إلى المستشفى، جلست بجانب أمه ووضعت يدها على يد أمه، وقالت بحنان: = سأعمل لك كوب من النعناع المغلي وستكوني بخير.. لأول مرة تشعر الأم بحنان زوجة ابنها، شعرت أنها تحسنت، فلبت طلب زوجة ابنها التي قالت: = غداً صباحاً سنذهب بك إلى طبيب مختص، حتى لا يعذبك أطباء الإسعاف.. وبعد ذلك أمسكت الزوجة بيد زوجها وخرجا من غرفة الأم.. خلف باب غرفة الأم كان صوت الزوجة يصل إلى مسمع الأم، سمعت عتاب الزوجة لزوجها: = كيف تذهب بها إلى المستشفى وأنت تعرف أن زواج بنت صديقتي لم يبق عليه شيئاً، وأنت وعدتني أن تذهب بي للسوق.. =.. = إذا لم تتحسن إلى الغد خذها إلى المستشفى.. =.. أطبقت الأم على دمعة بين جفنيها، ربما كانت دمعة وجعها، وربما كانت دمعة مكوثها معهما!..-4- شعرت الأم بألم شديد يعتلي جسدها، وأدركت أنه الموت!.. صرخت باسم ابنها، ولم يجب أحداً لصراخها، قلبت جسدها ومدت يدها لتلتقط الهاتف المحمول، ضغطت على اسم ابنها بصعوبة بالغة، ولم يجب على اتصالها، صرخت باسمه متوسلة له أن يرد على هاتفها، كانت بحق تريد أن ترى ابنها قبل رحيلها، أعادت الاتصال أكثر من مرة دون إجابة.. -5- في السوق كان يرى اتصالات أمه، وكلما هم بالرد كانت زوجته تسأله عن رأيه بفستان أو عطر، وكان يرجى الاتصال بأمه حين ينتهي من التسوق، لاحظت زوجته الاتصالات المتكررة وسألته عن المتصل، وحين أجاب أنها أمه، قالت له: = إنها قلقة عليك لا أكثر، لم يبق لي إلا أشياء بسيطة من ذاك المحل ونعود بعدها للدار، لا تخف ولا تقلق عليها فأنا أوصيت الخادمة وسوف تقوم بما ستقوم أنت به.. مضى على كلمات زوجته أكثر من ساعتين وبضعة دقائق، حين ركبا سيارتهما عائدين إلى الدار.. -6- دخلا بيتها الصامت، قابلتهم الخادمة تحمل بيدها كأس ماء، قال لها: = كيف هو حال أمي.. = كما هي.. لقد طلبت أن تراك، وحين قلت لها أنك ستعود بعد قليل، طلبت كأس ماء.. كانت الخادمة تقول تلك الكلمات وهي ترتقي الدرج متجه إلى غرفة الأم.. وقبل أن يتم صعوده لغرفة أمه، صرخت الخادمة بقوة، وأطلت من بابا غرفتها وهي تصرخ.. = خالد أمك تريدك.. تعال بسرعة.. أتم صعوده الدرج، ووقف على باب غرفة أمه ليرى الخادمة تحتضن برأسها يد أمه وكأنها تقبلها، وعينا أمه عالقة بالسقف!..