خرج المهندس المعماري الشاب من مقر عمله على الأطراف الشمالية للمدينة واستقل سيارته الصغيرة متجهاً صوب أوسطها. اتصل بزوجته عند وقوفه عند احدى الإشارات وأخبرها بانتهاء عمله وراح يحكي لها عن يومه الطويل. حكى لها عن مشادة طويلة مع مديره بالعمل انتهت بقبلات رأس أخوية متبادلة. همست له بحب تذكره بأول عراك بينهما قبل بضع سنوات وكيف انتهت الخصومة بعدها بدقائق. ابتسم بحب وراح يصب في أذنيها أعذب الكلام وأرقه وهو يمضي في طريقه متجاوزاً الإشارة الخضراء. اختطفت ابنته الوحيدة الهاتف المحمول من يد أمها وصوتها يتراقص فرحاً لسماع صوت أبيها. ذكرته بموعد الهدية الأسبوعية وأكدت اشتياقها الكبير لرؤيته. وعدها بهدية جديدة مدهشة وبأنه لن يتأخر عنها لحظة. أنهى الاتصال عندما اعتلت سيارته الطريق السريع وبدأ بالقيادة بسرعة ممارساً هوايته المفضلة بتجاوز السيارات بأناقة وحرفية. كان يعلم خطورة قيادته السريعة لكنه كان واثقاً من مهارته وقدرته الفائقة على التحكم بمقوده. استمرت انسيابية حركة سيارته بين غيرها من المركبات ثم اهتز هاتفه المحمول للحظات أعقبها بنغمة موسيقية قصيرة أعلنت وصول رسالة نصية. أمسك بهاتفه وراح يقرأ الرسالة وهو يضحك لسخافة صديقه ونكته التي لا تنتهي. قام بكتابة رد سريع موبخاً نديمه على اختياراته التافهة ثم أظلمت الدنيا في وجهه. راح يبشرهما بسلامته وزوجته ووالده يجاهدان للخروج من بركة دموعهما المريرة ويتجاهلان وجوده. أكمل يحدثهما ويحدثهما بلا جدوى حتى ذهبا في طريقهما وتركاه واقفاً في مكانه. استيقظ ليجد نفسه في غرفة صغيرة محاطة بستارة بيضاء وأجهزة طبية من حوله. أيقن بوجوده في المستشفى وبوقوع حادث مروري ذهب ضحيته. التفت إلى الطبيب بجانبه الذي كان وممرضتان يحاولون بلا جدوى إسعاف مريض. قام بتحريك قدميه ويديه وشعر بالسعادة لسلامة عظامه من الكسر. مرر يديه على رأسه وتأكد من عدم وجود ضمادة طبية. حاول القيام من السرير ونجح بالوقوف على رجليه بصعوبة وكأنه يقف لأول مرة. خرج من الغرفة وفوجئ بالزحام الرهيب في ردهة المستشفى وفي غرفة الطوارئ الكبيرة التي قُسمت إلى غرف صغيرة متراصة. حاول إيقاف أحد الموظفين للسؤال عن حادثه، لكن الأخير تجاهله وهو يجري بسرعة خلف سرير يحمل أحد المرضى. توقف للحظات وهو يشعر بالارتباك حيث كانت تلك هي المرة الأولى التي يدخل بها غرفة طوارئ في مستشفى. راح يتطلع إلى الأسرة التي حملت الكثير من الأجساد الحية وشبه الميتة والتي كانت ضحية حوادث مرورية. كانت غرفة الطوارئ أشبه بخلية نحل يتحرك الأطباء والممرضون فيها بسرعة من غرفة إلى غرفة ومن مريض إلى آخر. تلفت من حوله محاولاً اتخاذ القرار المناسب في مثل هذه الظروف، لمح غرفة الاستعلامات في احدى الزوايا القريبة من غرفة الطوارئ. اتجه صوب الاستعلامات التي جلس موظفها يحدث أحد المراجعين. توقف للحظات ينتظر دوره خلف المراجع ودهشته تزداد بازدياد مصابي وضحايا الحوادث المرورية. ظل ينتظر دوره ثم فوجئ برؤية زوجته ووالده يقفان أمام الغرفة التي خرج منها والطبيب يتحدث معهما. انطلق يجري نحوهما ليبشرهما بنجاته لكنه صُدم بانفجار دموع زوجته وارتمائها في حضن أبيه والطبيب يهز رأسه بأسف ويتركهما ويذهب. شعر بحصول سوء فهم فأكمل طريقه نحوهما وهو يشعر بالألم لرؤية أحبائه يبكون. اقترب منهما وهاله سيلان الدمع من مقلتي أبيه الكهل فصاح بأعلى صوته «أنااااااا بخير». راح يبشرهما بسلامته وزوجته ووالده يجاهدان للخروج من بركة دموعهما المريرة ويتجاهلان وجوده. أكمل يحدثهما ويحدثهما بلا جدوى حتى ذهبا في طريقهما وتركاه واقفاً في مكانه. حينها.. أدرك أنه تحول إلى روح بلا جسد.. روح بلا جسد.. Almusadri@ تويتر