قبل سنوات حينما كانت الصحافة تقدم بين حين وآخر قراءات نوعية لقصائدنا المنشورة على صفحاتها، وتستكتب لهذا الغرض نقّادا تكفينا توقيعاتهم على نصوصنا، كنا نقول إن النقد حاضر وإن هناك تصالحا كبيرا بين قصائدنا وبين آبائنا النقاد، ربما لأننا نبحث عن ذلك النقد اللاحق بنا حينما نظّر لنا، وهكذا كنا نطل ليأتوا ونكتب لنستكشف كتاباتنا معهم، حتما لم نكن وقتها نكتب لهم أو لأجلهم حين نثق بهم، لكننا في المقابل لا أقلّ من أن ندجّن تجاربنا برؤاهم ونبلغ بحضورهم بعض وعينا الذي تحتاجه تجاربنا في مراحل نموها. اليوم لا يبدو النقد الخاطف والمستمر والمؤثر حاضرا كما كان عليه الأمر قبل أكثر من عقد من السنوات، ولم تعد صحفنا تنفعل بمثل هذا الفعل الإبداعي الذي يعني المبدع بشكل مباشر ربما لمتغيرات إعلامية وثقافية معا أو حتى تسجيل موقف صريح ورافض تتركه الصحافة الجادة حيال ما يلقاه النص الواعد من إخوانيات وعبارات مجاملة ومحاباة هشة تتخلق في الشبكة الالكترونية عبر قنوات تواصلها المتعددة، وتحاول أن تصل بهشاشتها هذه إلى الصحافة فتقف منها موقفا صارما يتجاهل مثل هذا التلقي ولا يحتفل به. لكن هل هذا كل الأمر؟ وهل نحن بالفعل لا نحتاج لمثل هذا التلقي النوعي والمؤثر لقصائدنا؟ وهل سيؤدي هذا التجاهل إلى أن تغيب قصائدنا عن النشر الصحفي في ظل قدرتنا على نشرها بالشكل والوسيط الذي نريد، أو حتى إحضارها لساحة التلقي النوعي من خلال استثمار وسائل التواصل الاجتماعي للتوجيه المباشر إليها كما يفعل عدد كبير من المبدعين الشباب..؟ أسئلة يجب أن يقف عندها القائمون على صفحاتنا الثقافية وجلّهم مبدعٌ برتبة صحفي أو حتى صحفي برتبة مبدع، وبالتالي عليهم تقديم ذلك المتلقّي النوعي، أو الناقد القارئ الذي يبحث عن ذاته في النص فيغامر ويقامر به ويأخذه إلى سياقاته الجمالية وينشد بالتالي الحضور فيه لأجله، لاسيما وكثير من المبدعين الواعدين لا يرون في نقادنا المعاصرين إلا استعلاءً وجلدًا لذاتنا المبدعة والاكتفاء باستدعاء مصطلحات ومفاهيم غربية لاتكاد تتسق غالبا إلا مع نوع خاص من الكتابة الشعرية وأعني به قصيدة النثر، ربما لأنها الأقدر على تحقيق تلك المصطلحات بسبب تخليها عن تقاليد القصيدة العربية القديمة واقترابها كثيرا من الترجمة الإبداعية لقصائد غربية حيث تخلق فيها وبها ولأجلها كل تلك المصطلحات النقدية المستدعاة، وهذا لا يعني أنني أسجل موقفا شخصيا منتقصا من قصيدة النثر بل على العكس مازلت أرى فيها خلوصا تاما لوجه الشعر لا يمكن أن تتحمله تلك القصيدة العربية القديمة المثقلة بالتقاليد والأعراف الشعرية المتوارثة، لكنني كذلك لا يمكن أن أقول انها هي شعرنا فقط حتى نرضى بأن ينحسر النقد عليها..!