لاشيء كان يجبر الإنسان على فراق أهله ومحبيه من الزوجة، والأولاد، والأصحاب؛ سوى الفقر، وهاجس تأمين لقمة العيش الكريمة.. فأصحاب القرى كانت موارد عيشهم شحيحة ومحصورة في عدد من الأعمال البسيطة مثل الزراعة البدائية، والرعي، والاحتطاب، وبعض الاعمال الحرفية غير المربحة، ومع كل هذه الظروف لم تكن الغربة خياراً، بل واقعاً؛ بحثاً عن عمل. بعضهم لم يتحمل الغربة.. والغالبية استقرت وأرسلت في طلب أسرهم للعيش معهم في العاصمة وبعد استقرار البلاد وتوحيدها على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- انفتحت آفاقاً جديدة أمام طالب العمل؛ فاتجهت الأنظار إلى العاصمة "الرياض"، التي كانت تشهد نهضة عمرانية، وحركة اقتصادية سريعة بمثابة "طفرة" للعمل، فشهدت "الرياض" قدوم جماعات كبيرة من شتى القرى، خصوصاً القريبة من "نجد"، بحثاً عن الرزق وهروباً من جحيم الفقر، فاستطاع العديد منهم شقّ طريقه في الحياة، ووضع له قدماً في العاصمة، بل صار من سكانها بعد أن نقل اليها أهله، حتى أنّ البعض منهم صار من كبار رجال الأعمال في المدينة. بداية الهجرة في ليلة هادئة -بعد أن يأخذ الجميع مضجعه- يتجاذب أطراف الحديث مع شريكة حياته؛ ليطلعها على ما يكنه صدره الضائق من تحمل نظرات الرجاء والأمل في أن يجلب السعادة لأسرته بتأمين قوتهم، وإبعاد شبح الفقر الذي داهمهم، ويصارح زوجته بعزمه على الرحيل مجبراً، فقريته لا يوجد بها عملٌ يستطيع أن يحصل به على أجر يثنيه عن الهجرة، وبعد "زفرات" و"آهات" توافق الزوجة، بعد أن تستنفذ كل محاولات الرجاء لثنيه عن هذا الخيار، فتبيت على صباح شمسه تضيء الطريق للفراق، ومع بزوغ الفجر يلقي الزوج نظرة أخيرة على فلذات كبده وهو يخفي دمعة تنساب على خده قسراً، لتتبعها أنّةٌ من أقصى الحشا، وكأنه يتمثل قول "ابن زريق البغدادي" عند رحيله لطلب الرزق وتحصيل مهر محبوبته: ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى وأدمعي مستهلات وأدمعه يوم الرحيل من قصص الرحيل المر التي تحمل الطابع الفكاهي هي ما حصل لأحدهم حينما كان شاباً يهم بالرحيل من قريته للعمل في العاصمة "الرياض"، وبعد أن استأذن والدته في ذلك اتفق مع صاحب سيارة تقل المسافرين، ولما ركب في "صندوق" السيارة فكّر في قريته وفراقه أمه، معتقداً أنّ العاصمة قريبة، فهو لم يخرج من بلدته أبداً، بل يسمع بقصص الرحيل وتحصيل فرص العمل، وعندما تحركت السيارة وسارت قليلاً سأل أحد الركاب: "هل وصلنا؟"، فأجابه: "لا، المسافة طويلة"، وبعد المسير بساعة سأل: "هل سنصل قريباً؟"، فقال محدثة باللهجة العامية: "وينك ووين الرياض!"، وبعد أن تجاوزت السيارة أحد المعالم البعيدة عن القرية التي يسمع بها ولم تصلها سأل: "هل وصلنا الرياض؟"، ضحك محدثه وهو يجيبه: "بقي يوم وليلة"، عندها قفز من السيارة مسرعاً ومطلقاً رجليه للريح عائداً أدراجه إلى قريته. ولم يصب صاحبنا بأذى، لأنّ السيارات تمشي على طريق ترابي وعر وسرعتها قليلة جداً، فأسرع وجد في المسير وبعد ساعات إذا به يقف على رأس أمه فقالت: "ما بالك رجعت"، فقال لها بصوت المتفاجئ من بعد المسافة: "يا أمي تعدينا معالم القرية وما وصلنا، الرياض بعيدة ورى قاف"، واحتضن أمه باكياً فبكت لبكائه ورق قلبها له وطلبت منه أن لا يسافر ويجلس في قريته سيرزقه الله أينما كان، ليبقى في قريته مع من بقي ممن لا يطيق الفراق، فتجرع مرارة الفقر، وعمل ب"الكدادة". الجانب الشمالي الشرقي لميدان الصفاة، حيث تبدو المقصورة الشمالية الشرقية لقصر الحكم 1356ه/1937م أشهر حرف المغتربين كان البناء أشهر الحرف التي عمل بها المغتربون؛ نظراً لكثرة الطلب عليها عطفاً على التوسع السريع في المدينة بعد استقرار أوضاع البلاد وبسط الأمن، فكان المغتربون يعملون في البناء باللبن، والطين، والحجارة، وكان يدفع لهم باليومية، وكانت أجرة العامل الحرفي في اليوم لا تتعدى (نصف ريال)، أمّا أستاذ البناء الذي هو بمثابة المهندس فأجرته أكثر حيث تبلغ (ريال) في اليوم أو تزيد قليلاً حسب مهارته، وهناك من يتقاضى أجراً أقل من الحرفي وهو "الرمّاد" الذي يجمع الرماد من البيوت، فيدور يومه من الصباح وحتى المساء في جمع الرماد من "الوجار"، حيث يحصل عليه بدون مقابل تنظيف المكان، ويذهب به إلى موقع البناء ليجمعه في مكان يستفيد منه البناؤون، وذلك بوضعه في أسفل "المحفرة"، وهي أداة حمل الطين، حيث يحول بين الطين والأداة ولا يلتصق بها فيسهل تفريغها، وكان أجر "الرمّاد" زهيداً لا يزيد على (ربع ريال) في اليوم. ومن الحرف أيضاً العمل في المزارع، وكان يطلق على من يعمل بهذه المهنة "صبي"، حيث يتولى سقاية الزروع، والحصد، وحرث الأرض، وذر السماد فيها، كما أنّ بعضهم عمل "حمّالاً" للأمتعة في السوق، بالإضافة إلى بعض الحرف اليدوية البسيطة ك"النجارة" بمعناها البسيط، و"الحدادة" وغيرها من الحرف. img src="http://s.alriyadh.com/2012/11/16/img/571592965207.jpg" title=" سوق الهدم "الملابس" ويظهر سوق الخرازين ملاصقاً لجدار الجامع، ويبدو الممر الموصل بين الجامع وقصر الحكم، والذي يطل على الحراج شرقاً ومجلب العلف غرباً في أقصى اليمين 1356ه/1937م " سوق الهدم "الملابس" ويظهر سوق الخرازين ملاصقاً لجدار الجامع، ويبدو الممر الموصل بين الجامع وقصر الحكم، والذي يطل على الحراج شرقاً ومجلب العلف غرباً في أقصى اليمين 1356ه/1937م مكان النوم والراحة عندما يقدم المغترب يلازم المسجد، فبعد الصلاة يخرج إلى السوق باحثاً عن عمل ثم يأوي إلى المسجد في آخر النهار لينام فيه، وبعد صلاة الفجر يمضي قدماً في عمله، ويستمر حيناً من الدهر حتى يتمكن من جمع بعض النقود ليستأجر بيتاً يؤويه مع عدد من المغتربين، الذين يتعرف عليهم أثناء العمل أو مع من قدم معه من قريته، كما أنّ البعض كان يسكن في غرف تسمى "غرف أبو رفيع"، وكانت تقع في جنوب غرب "قصر المربع"، وبُنيت من أجل إسكان العمال المغتربين. وفي قصة طريفة لأحد الحرفيين عندما اجتمع عدد من البنائين وأستاذ البناء المشرف عليهم في بيت أحد الموسرين، وكان صاحب العمل يكرمهم فوق أجرتهم بتقديم طعام شهي طيب من طبخ أهل بيته، واستمروا على ذلك أياماً، وعندما شارف العمل على الانتهاء اجتمع البناؤون إلى أستاذ البناء، وقالوا: "بقي يومان وينتهي العمل في هذا البيت وسنمكث أياماً بدون عمل، وسنفقد هذا الطعام الطيب، فاحتل لنا بالمكوث أكثر عند صاحبنا، حتى نستمتع بهذا الطعام ونضمن لنا عملاً آخر"، فرد عليهم: "إن شاء الله سأحتال لكم"، ومن الغد بنى "درج السطح" بميلان بسيط لا يؤثر على قوة البناء، وبعد أيام انتهى العمل، وسلم صاحب البناء بقية الأجرة إلى العمال فقال له أستاذ البناء: "يا أبو فلان، أظن أننا أخطأنا في درج السطح، فيه ميلان، وليس فيه خطر، فإن شئت أصلحناه بلا مقابل"، فوافق شاكراً، ليهدمه الجميع فرحين، واستمروا في البناء أياماً وهم يتلذذون بطعامه الشهي حتى انتهى العمل، وانتقلوا إلى موقع آخر. صغر سن.. وتجربة فاشلة كان أحد المغتربين من صغار السن قد مرّ بتجربة قاسية، حيث غادر بلده على سيارة دفع ما لديه من نقود كأجرة لها، مودعاً والديه لعله يعود إليهما بثروة، وعندما وطأت قدماه أرض "الرياض" جلس وحيداً في السوق بملابسه الرثّة، وليس معه زاد ولا متاع، فخنقته العبرة، لا يدري أين يذهب، ولا من يكلم، وبدأ يلوم نفسه أنه غادر بلده دون رفقة، متمنياً أن تحمله الريح، وتلقي به بين يدي والديه، وبينما هو غارق في التفكير فإذا بالفرج يطرق بابه، وإذ بسيارة فارهة تعود لأحد الأمراء تقف بجانبه، فينزل سائقها "الخوي"، وبعد أن سأله عن اسمه وبلده وسبب قدومه عرض عليه العمل بالقصر، فوافق فرحاً، وركب السيارة وغادر للقصر، وتم عرضه على رئيس "الخويا"، الذي رأى أنّه يناسب عمل "القهوجي"، فأمر أن يُذهب به إلى السوق ونشترى له ملابس جديدة، وتبدلت حاله، وصار "نصبه" وجيهاً للعمل كمرحب للضيوف، وتم تعليمه مهارات الصب كأن يضرب الفنجان به ليخرج صوتاً مميزاً، وجاء يوم الاختبار فدخل على الأمير، وصب القهوة وهو يرتجف، فأعجب به الأمير وأثنى عليه وشمله بعطفه. جانب من سوق الحراج وتبدو إلى اليسار قيصرية أبا عود 70-1373ه/51-1954م وبعد مدة جاءت مناسبة حضر فيها عدد من الضيوف في مجلس الأمير، وأمر بصب القهوة للضيوف، وكان صاحبنا أحد القهوجية، وكان عليه أن يبدأ بالصب للأمير ومن ثم لمن عن يمينه، والثاني يصب لمن هم بجانب الأمير من اليسار، ولهول الموقف وكثرة الضيوف ارتبك هذا الفتى، وعندما دخل المجلس وتوسط تعثر بالسجاد وسقطت من يديه "الدلة والفناجين"، وقام من هول الصدمة، فإذا به يسمع الأمير بقول ل"الخويا" ساعدوه -بصوت مرتفع-، وظنّ لحظتها أنّ الأمير يأمرهم بالقبض عليه ليعاقبه، فأطلق ساقيه للريح هارباً من القصر، وذهب إلى السوق واختفى، وسأل عن سيارة تقله إلى بلده فوجدها، وخرج معها مسرعاً مسافراً إلى بلده تاركاً العمل في "الرياض". الرياض في تلك الفترة وقال الشيخ "عبدالعزيز بن علي الدايل" - الذي عاصر تلك الفترة - أنّ الرياض كانت تستقبل زوارها من القرى خلال بواباتها التسع الشهيرة، التي تُفتح مع اشراقة كل يوم جديد وتغلق بعد صلاة العشاء بقليل، وكان لهذه البوابات أسماء "الثميري"، "القري"، "الوسيطاء"، "دخنة"، "مصدة"، "الشميسي"، "المذبح"، "السويلم"، "الظهيرة"، وكان لكل بوابة من تلك البوابات حارس توكل إليه مهمة فتح وإغلاق البوابة، وكانت السيارات أول ظهورها تدخل إلى "الرياض" قادمة من "جدة" مع بوابة "دروازة الثميري" متجهة إلى ساحة "الصفاة" وبها "قصر الحكم"، وكان الطريق مرصوفاً بالحجارة من قصر المربع إلى ساحة "الصفاة"، ويمر مع طريق "أم قبيس" ويمر مع قصر "الشمسية" وشارع "الوزير"، وكان جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- يمر ويدخل مع بوابة "الثميري" في طريقه إلى مجلسه يومياً في "قصر الحكم". وأضاف: بالقرب من القصر مسجد "العيد"، وكانت السيارات تصف في "طوابير" من الغروب إلى منتصف الليل، وهي غالباً تابعة ل"الشركة العربية للنقل" -آنذاك-، حيث يتم إنزال ما يخص "المالية" و"الدولة"، مبيناً أنّه بعد أن ضاقت "الصفاة" بالسيارات تمت إزالة بوابة "الثميري"، وتوسعة المنطقة المحيطة بها، وبنيت "دكاكين" تجارية شرقي المسجد الجامع، وبجانب المسجد كان هناك اسطبل للخيل، وفي تلك الفترة من الزمن ازدهرت الحركة التجارية في "الرياض"، وتوسعت أعمالها، وشهدت موجة ارتفاع في الأسعار، خصوصاً مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ولكنها عادت إلى الانخفاض والاستقرار بعد بضعة أشهر من انتهاء الحرب. طفرة عمرانية عقارية ومع تقدم الزمن، وتحسن الأحوال المعيشية شهدت العاصمة توسعاً معمارياً، وكثافة سكانية، وطفرة عقارية، فمنحت الدولة قطع أراضي للمواطنين بمقدار (40X40) ذراع في أربعين ذراع، وكانت الأطوال المستخدمة تقاس بالذراع قبل أن يستبدل بالمتر، وتوالت عملية البناء والتعمير، وظهرت أحياء جديدة وأولها "الفوطة"، و"الحوطة" ثم "المرقب" ثم "حلة القصمان"، و"البطحاء"، وشق شارع "الريل"، و"دخنه"، و"العجلية"، و"الشميسي"، ثم توالت الأحياء الجديدة؛ مما مكن عدداً من المغتربين إلى اختيار السكنى في العاصمة، والانخراط في الأعمال المهنية والتجارية ومن ثم الأعمال الحكومية. حمّال ينقل البضائع من سيارات النقل إلى السوق جانب من سوق المقيبرة، ويبدو إلى اليسار مدخل سعود بن عبدالله 70-1373ه/51-1954م img src="http://s.alriyadh.com/2012/11/16/img/854080473540.jpg" title="سوق الحساوية "الخياطين" يظهر في الخلف الواجهة الجنوبية للجامع 71-1374ه/52-1955م " سوق الحساوية "الخياطين" يظهر في الخلف الواجهة الجنوبية للجامع 71-1374ه/52-1955م أحد الأسواق القديمة وبها العمال ينتظرون فرصة العمل ميدان الصفاة، ويبدو ممر المالية الذي يربط قصر الحكم بقصر الضيافة 1356ه/1937م