في نهاية شهر أكتوبر الماضي أعلن محامي جيرار دوفيلييه في تغريدة أن هذا الأخير قد رحل في سن الثالثة والثمانين بسبب مرض عضال، وبقدر ما كان النقاد الفرنسيون قد تجاهلوا هذا الكاتب الذي تخصص في أدب "الرواية البوليسية" منذ قرابة نصف قرن، بقدر ما تصدر خبر رحيله كل وسائل الإعلام الفرنسية التقليدية والحديثة. وقد بدا من خلال ما كتب النقاد عنه بعد رحيله أنهم قصروا فعلا طوال نصف قرن في الحديث عن خصوصية مسار هذا الرجل وخصوصية طريقة الكتابة عنده، مما يميزه عن كتاب الرواية البوليسية الآخرين، لكونه يستمد من فنون جمع المعلومة الصحافية وتقديمها بأسلوب مشوق أداة هامة من أدوات فن الكتابة عنده، فقد كان دوفيلييه في بداية مساره المهني صحافيا مخبرا، ومن ثم فإنه تعلم شيئا فشيئا أن في ثقافات الآخرين والأسباب التي تجعلهم يهتمون بالأحداث السياسية وغير السياسية اليومية معينا لضرب من الكتابة المسيرة هي خليط بين الواقع والخيال. لذلك قرر في عام 1965 إطلاق سلسلة من الروايات البوليسية بطلها أرستقراطي نمساوي يضطر إلى التعاون مع "جهاز المخابرات الأمريكية " سي – آي – إي " ليكسب أموالا يخصصها لترميم قصر عتيق تملكه أسرته، واختار دوفيلييه لبطله لقب "ساس" وجعله يقضي شطرا كبيرا من وقته لمحاولة التصدي لأشخاص وأطراف يعدون خصوما للولايات المتحدةالأمريكية. وتنتمي البلدان التي تدور فيها أحداث روايات دوفيلييه البوليسية عموما إلى فئتين اثنتين: فئة بلدان المعسكر الشرقي خلال ما يسمى "الحرب الباردة" بين الدولتين الأكبر أثناء تلك الفترة أي الولاياتالمتحدةالأمريكية وما كان يسمى "الاتحاد السوفيتي" أما الفئة الأخرى فتمثل البلدان التي شهدت صعود الحركات والتيارات الإسلامية المتشددة، وذلك منذ تسعينيات القرن الماضي، وقد حملت هذه المرحلة جيرار دوفيلييه على زيارة بلدان عربية وإسلامية كثيرة منها سورية ولبنان والعراق وأفغانستان وباكستان ومالي وبلدان كثيرة أخرى. وبين (بين الواقع والخيال) فقد كان يحلو لدوفيلييه القول عن نفسه إنه "بائع أحلام" وأن التلذذ بقراءة ما كان يكتب ينبغي أن يسهله الالتصاق بواقع الأطر التي يكتب عنها وعن شعوبها وثقافاتها، وكان يسعى دوما إلى جمع المعلومات عن هذا البلد أو ذاك وعن واقعه السياسي وخلفية الصراعات السياسية وغير السياسية التي تجري فيه بكثير من الدقة، وهكذا كان الرجل يسافر إلى الأماكن التي يرغب في الكتابة عنها والحصول على معلومات دقيقة عن هويتها ونبض الشارع فيها لدى الصحافيين ورجال الشارع والشرطة ورجال المخابرات. كما كان يوثق لكل ما يراه وما يسمعه بالصورة أو عبر تسجيلات أو من خلال الكتابة، وبعد أن تنتهي عملية جمع المعلومة يبدأ دوفيلييه في البحث عن خيط دقيق للربط بينها من خلال شخصية "ساس" وبعض الشخصيات الأخرى وعبر استخدام بعض توابل الكتابة البوليسية ومنها العنف والجنس وشد القارئ من البداية إلى النهاية إلى متابعة ما كان يسميه "المسلسل الجيوسياسي". ونظرا لأن دوفيلييه كان دقيقا جدا في وصف الوقائع وخلفياتها وسيناريوهات تطورها، فقد نجح في وضع سيناريوهات افتراضية أكدتها الوقائع الميدانية جزئيا أو كليا أكثر من مرة، ويتجلى ذلك مثلا عبر رواية "مؤامرة القاهرة" التي ألفها جيرار دوفيلييه ونشرت قبل شهر على اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات عام 1981م وكذا الشأن مثلا بالنسبة إلى رواية أخرى عنوانها "طريق دمشق" وفيها وصف دقيق لعملية عسكرية تشبه كثيرا تلك التي قامت بها المعارضة السورية المسلحة بعد صدور الرواية ضد مقر الأمن القومي السوري في دمشق وأدت إلى مقتل عدد من كبار القادة العسكريين السوريين منهم داوود راجحة وزير الدفاع آنذاك، وآصف شوكت صهر الرئيس السوري بشار الأسد، وقد جدت هذه العملية في 18 يوليو 2012. أما في رواية "مجانين في بنغازي" فكان جيرار دوفيلييه أول طرف يكشف عن وجود خلية تجسس أمريكية موجودة في المدينة منذ فترة طويلة، وفي رواية " ذعر في باماكو" فقد استبق فيها وصف العملية العسكرية التي قامت بها القوات الفرنسية في مالي، وخلال تواجده بهذا البلد لجمع مادة الرواية قابل أطرافا كثيرة من أطراف الأزمة المالية منها أمادو سانوغو قائد الانقلاب العسكري في مارس2012م الذي تسبب في تفاقم هذه الأزمة والسماح للانفصاليين بالزحف على وسط البلاد بعد كان وجودهم محصورا في بعض المناطق الشمالية. وتجدر الملاحظة إلى أن جريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية كتبت مقالا طويلا عن دوفيلييه في الثلاثين من شهر يناير الماضي قالت فيه: إن الرجل يعرف من الأسرار السياسية والاستراتيجية مالا نجده أحيانا حتى عند كبار المتخصصين في أجهزة الاستخبارات العالمية، كما أكد هوبير فدرين وزير الخارجية الفرنسية السابق للصحيفة الأمريكية أن كل الكتاب والمثقفين الفرنسيين يقرأون سرا روايات دوفيلييه بالرغم من أنهم لا ينظرون إليه كما لو كان كاتبا كبيرا، حيث كان دوفيلييه يسخر من النقاد والمثقفين ويقول: إنه يكتب لعامة الناس، ولو لم يكن الأمر كذلك لما بيعت رواياته التي يبلغ عددها مئتين منذ إطلاقها عام 1965 بكميات تتراوح بين 120 و150 مليون نسخة وترجمت إلى لغات كثيرة منها الروسية والألمانية والإيطالية واليابانية والكورية.