منذ فترة طويلة وأنا أسمع أن هناك مشاكل كبيرة في مشاريع وزارة الصحة وأن أغلبها متعثر وأن الخمس مدن الصحية الأخيرة التي أعلنت عنها الدولة تسير إلى المجهول حتى أن أحد الزملاء قال لي ان وزارة الصحة أرسلت للمقاولين أحاديث وأقوال مأثورة تذكرهم بالأمانة والإخلاص فهي، أي الوزارة، تشعر بالعجز أمام الفوضى والفساد. والحقيقة أن هذا الوضع ينطبق على كل المؤسسات الحكومية وأنا هنا لا أتهم أحدا بالفساد المالي ولكن أعتقد أن هناك مشكلة في القدرة على التعامل مع المشاريع الكبرى لدى هذه المؤسسات وهذا ناتج عن تفكك "الإدارة الهندسية" الخاصة بالدولة التي كانت تمثلها وزارة الأشغال العامة والتي تشرذمت إلى إدارات ضعيفة جدا في كل وزارة على حدة. تجربتنا في التعامل مع المشاريع الكبرى في الثمانينيات من القرن الماضي كانت ناجحة جدا وأثمرت عن بنية تحتية وفوقية عملاقة كنا نفتخر بها لكننا عندما أسقطنا وزارة الأشغال، تراجعت قدرتنا بشكل كبير. المسألة كلها تتمثل في إيجاد جهاز مركزي متميز يستطيع إدارة جميع مشاريع الدولة بدلا من هذا التشتت والهدر الكبير في موارد الدولة على أجهزة ضعيفة تزيد من الأمر سوءا بدلا من أن تعالجه وتطوره. إذا كانت الدولة تبذل ولا تبخل على المواطن، فلماذا لا ينعكس هذا البذل في الواقع، إنه سوء الإدارة بالدرجة الأولى، والحل يكمن أولا في التعامل مع المشكلة بعيدا عن العاطفة فمصلحة الوطن فوق أي اعتبار يجب أن أقول اننا نبالغ في ردة فعلنا دائما وبشكل يؤثر على التنمية لدينا ويدخلنا في إشكالات كبيرة تعطلنا، فإما أن ننشئ وزارة للأشغال ونجعلها وزارة بيروقراطية ومترهلة تنتهي بالفشل كما حدث في السابق أو نشتت الجهاز الهندسي الحكومي ونقزمه ونجعله غير فاعل كما هو الحاصل هذه الأيام. هذا الإفراط في ثقافة ردة الفعل هي التي تجرنا دائما للفشل والمشاكل وتزيد من تشتتنا وحيرتنا أحيانا فنحن نسأل دائما لماذا تتعثر المشاريع، بينما إدارة التشتت لدينا هي السبب الأول فيها. بالنسبة لي أفهم هدف كل وزارة في الاستقلالية بمشاريعها، انها الرغبة في حيازة أكبر قدر ممكن من القوة والاهتمام، وعندما تكون المشاريع بيد الوزارة تصبح لها أهمية ويكون الوزير قويا ومتمكنا، لكننا في النهاية نخسر على المستوى الوطني وتزداد معاناة المواطن الذي وفرت له الدولة موازنات عملاقة تتبخر أغلبها في "سوء إدارة" هذه الموازنات. في السابق كان لدينا مكتب لتنسيق المشاريع وكان يفترض أن يتحول إلى جهاز مركزي تقني وهندسي ومهني عملاق لكنه تحول إلى وزارة فوقع في شرك البيروقراطية وانهار مع الوقت وهذا يندرج ضمن ثقافة "المبالغة" المفرطة التي نتميز بها. المشكلة أننا لا نتخذ قرارات في الوقت المناسب، فإدارات هندسية في الوزارات تدير مشاريع بمليارات الريالات لا يوجد فيها مهندسون أكثر من عدد أصابع اليد وهم من المهندسين المكتبيين الذين لم يعملوا بأيديهم هو نوع من "التفريط" الواضح والتعامل مع الأمر بعدم جدية وسوء تقدير. هذه الوزارات تعتمد على عقود استشارية بمليارات الريالات لا يستفيد منها المواطنون ولا تبني خبرة هندسية وطنية ولا توطن التقنية، وخير مثال على ذلك العقود الاستشارية لوزارة الإسكان التي تجاوزت المليار رغم أن مشاريع الإسكان بسيطة ولا تحتاج إلى استشاري أجنبي وطبعا نتمنى أن نخرج في النهاية بشيء. هذا ينطبق كذلك على احدى الوزارات التي لديها مشاريع بأكثر من 80 مليارا موزعة على كافة مناطق المملكة وهي مشاريع بسيطة جدا لا تتعدى مقرات لمكاتب ومهاجع وغيرها وتشترط على المقاولين العمل مع إستشاريين أجانب وترفض المحليين بينما جهازها الهندسي يتمثل فقط في مدير الجهاز نفسه ولم يتم بناء أي فريق من المهندسين المواطنين لمتابعة الاستشاريين الأجانب على الأقل. الغريب أننا نؤمن بمقولة "لا إفراط ولا تفريط" التي تعكس معنى عنوان هذا المقال، إلا أننا لا نطبق هذه المقولة في إدارتنا أبدا، نتكلم بصورة وعظية ولا نعرف كيف ننقل الوعظ إلى التطبيق، وهذا في حد ذاته مشكلة كبيرة سوف نستمر نعاني منها إلى أن تتغير الطريقة. إذا كانت وزارة الصحة ووزارة الإسكان وباقي الوزارات تعاني من سوء إدارة المشاريع ذلك لأنها مشاريع مفاجئة ومبنية على ردة الفعل وغالبا ما تكون هذه الوزارات غير جاهزة لمثل هذا العمل الكبير لكنها لا تريد مشاركة أحد لها في العمل فكل وزارة تعمل وكأنها دولة داخل الدولة، وهذا واضح أصلا عندما يكون هناك لجنة مكونة من عدة وزارات حيث نرى أن ممثل كل وزارة لا يفكر إلا في حدود "مصالح" وزارته، وغالبا ما تكون نتيجة هذه اللجان المزيد من التعقيد والتشويش لأنه لا يوجد من "يفرض" مصلحة الوطن العليا على قرارات اللجنة. ما نعاني منه أمر يتطلب قرارا يوقف هذا النزيف في المال العام ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ويراعي مصلحة الوطن أولا وأخيرا ولا يجامل الوزارات. المشكلة من وجهة نظري تتفاقم وتزداد سوءا، فإذا كانت الدولة تبذل ولا تبخل على المواطن، فلماذا لا ينعكس هذا البذل في الواقع، انه سوء الإدارة بالدرجة الأولى، والحل يكمن أولا في التعامل مع المشكلة بعيدا عن العاطفة فمصلحة الوطن فوق اي اعتبار، وفي اعتقادي الأطروحات الأخيرة التي تم اقتراحها لحل مشكلة تعثر المشاريع لن تجدي نفعا ما لم نبدأ في سحب جميع المشاريع من الوزارات وإنشاء جهاز مركزي عملاق يشرف على مشاريع الدولة كلها ويتم تطوير الجهاز الهندسي لدى الوزارات ليعمل كممثل للمالك وينسق للمشاريع التي تخص وزارته فقط بينما تكون مهمة الجهاز المركزي إدارة المشاريع بشكل عام من بداية التصميم وحتى تشغيل المشروع. وبالطبع أنا لا أنادي بعودة وزارة الأشغال مرة أخرى، لأننا بحاجة إلى جهاز غير بيروقراطي عصري يستطيع أن يواكب التغيرات الإدارية والتقنية بسهولة ويمكن أن يكون هذا الجهاز مرتبطا بالملك مباشرة بحيث يقوم باستقطاب خيرة المهندسين السعوديين ويعمل مع الجامعات على تخريج خبرات هندسية وطنية تسد حاجة الوطن. هذا الجهاز "المفكر" العصري في إدارته هو ما ينقصنا أما ترقيع الحلول ووضع أفكار وقتية لحل مشكلة متأصلة وعميقة فلن يغير من الأمر شيئا.